٣ نقاط قبل قراءة التدوينة:
– آرائي القادمة هي بِناءً على تجربتي الشخصية كمعالج نفسي في أحد التطبيقات المعتمدة للعلاج النفسي، التجربة كانت قبل قرابة سنتين من تاريخ هذه التدوينة وربما امتدت فقط لشهرين تزيد أو تنقص، خلال هذه السنتين في ظنّي حدث بعض التطور أو الاختلاف في هذه التطبيقات وللأسف لست على اطلاع بما استجد.
– الحانوت هي كلمة عربية أصيلة تعني المتجر ويغلب استخدامها في المغرب العربي، ربما اصطلح هذا الاسم على الأماكن التي تبيع ما يُسكر العقل وهذا ما لم أقصده في استخدامي لها .. بشكل مَوعي على الأقل!
– ما أتناوله في هذه التدوينة هي خدمة العلاج النفسي الاتصالي بالتطبيقات الإلكترونية، لا أقصد هنا تماماً العلاج النفسي الاتصالي من العيادات والمستشفيات الحقيقية على أرض الواقع.
بالبداية ،، لا نقاش في أهمية هذه التطبيقات وإيجابياتها الكثيرة مثل: سهولة وصول المرضى المصابين بإضطرابات نفسية لمقدم الخدمة، عدم كشف هويتهم عندما يحتاجون لذلك، القيمة الأقل نسبياً للخدمة، كذلك خدمة من يسكنون في أماكن بعيدة عن الخدمات النفسية، كل هذه الأمور التي وضعت تحتها خط هي من الفوائد الجمّة والتي لا تُقدّمها الخدمات النفسية المعتادة، هذه الإيجابيات ساطعة ولا يمكن تغطية وضوح شمسها لا بغربال ولا بتدوينة كهذه، هذه التطبيقات والأصدقاء العاملين فيها يسدّون ثغرة لا يمكن لأحد سدّها وربما سينال الخدمات النفسية على أرض الواقع المزيد من الضغط أكثر من ضغطها الحالي بدون هذه التطبيقات.
هنا في هذه التدوينة أملك بعضاً من اليقين وكثيراً من حق النقد في أن أكتب بعض الملاحظات التي وجدتها خلال تجربتي القصيرة مع إِحدى هذه التطبيقات، وطلباً للحياد فإنّني شخصياً كنت في تردد كبير قبل البدء في هذه التجربة العلاجية الإلكترونيّة، التردّد يعود للخوف من تجربة الجديد ويعود للخوف من الانشغال ويعود -وهو الأهم- لقدسيّة روح الغرفة العلاجية وسياقاتها الثرية والتي من الصعب تعويضها في العلاج الاتصالي .. على الأقل في ظنّي، هذا التصور الذي ذكرته لكم شعرت أنّه من الأهمية بما كان أن أذكره لكي تكون التدوينة مفهومةَ الأبعاد والمنطق رغم محاولات الحياد مني.
ملاحظات التجربة:أزمة سهولة الاختيار والدوران بين المعالجين
سأبدأ أولاً بهذه الملاحظة والتي منها جاء عنوان هذه التدوينة، خلال تلك الشهرين تَعزّزَ لديّ شعورٌ حدث مع تكرّرِ المرضى على طلب خدمتي وهو أنّ البعض منهم يقوم بتجربة العديد من المعالجين في ذات التطبيق وغيرها من التطبيقات، المستفيد من الخدمة يجرب هذا المعالج في هذا الأسبوع ومعالج آخر في الأسبوع الذي يليه، يقوم بأخذ رأي طبيب وربما قبله شاهد ٣ أو ٤ بدون تواصل بين هؤلاء الأطباء أو توثيق الكتروني لمعلومات زيارته، المريض يتجوّل ويجرب الكثير من المعالجين كأنما يتجول بين الدكاكين والحوانيت، يطرب لهذا ولا يعجبه ذلك وهكذا، لدرجة أنّ هنالك مريضـ/ـة قابلني بعد أن قابل معالج آخر قبلي بساعة واحدة فقط في ذات التطبيق.
قد يعود هذا الوضع بسبب شدّة معاناة المريض أو حِيرته أو جزء من شخصيّته وهذا الأمر نراه في العيادات على أرض الواقع، لكنّه في العيادات الواقعية هو شيء أكثر سهولة في ملاحظته والسيطرة عليه وأكثر صعوبة على ذات المريض في الاستمرار عليه، وهنا ٣ نقاط مهمة للغاية:
الأولى: أن هذا النمط من التنقّل السهل بين المعالجين يصيب السياق العلاجي والإلتزام بالخطة العلاجية في مقتل، الساعة أو النصف ساعة مع عدة معالجين مختلفين لن تفعل كثيراً من الأعاجيب.
الثانية: هذا الملمح والمشهد من سهولة اختيار المعالج وتوفرّه بضغطة زر هو أمر لابدّ أن يكون سهلاً لطبيعة الخدمة وتعقّد عدم جعلها بهذه الصورة، لكنّه في ذات الوقت هو منظر لا يخلو من الطبع التجاري، هذا الأمر يزيد من دخل التطبيق وعليه لابدّ أن يكون سهلاً، هذا الملمح التجاري فيه ما فيه من المنطق وكذلك فيه ما فيه من الضرر الجانبي، والضرر لا يتوقّف على ذات المريض لكنّه يشملَ المعالج من عدم وجود السياق المنطقي لتقديم خبرته والمردود الحاصل من تتبّع مرضاه، وكذلك يصيب المجال النفسي في مجمله بشيء من السلبية بسبب هذا المنظور التجاري البحت وكذلك سلبية ثالثة وهي ما أشرحه بالأسفل
الثالثة: السلبية الثالثة هي سلبية تعزيز بيئة النصائح المعلبة والقصيرة على المرضى، تنميط مشهد أنّ المريض هو شخص أشاهده لمرة واحدة في غالب الأمر ولذلك سأسرد عليه ما أسرد من نصائح متكررة قبل انتهاء وقت جلستنا الأولى والأخيرة، أهمية أن افهم سياقات حياته التي جلبته لعيادتي وأهمية مضي الوقت بيننا لفهم ما استصعب علينا فهمه تكاد تكون مفقودةٌ في هذه الخدمات النفسية بالتطبيقات الإلكترونية، فقدان هذا الأمر يؤثّر على المجال النفسي برمته وصورته لدى المجتمع، في العيادات الخاصة الحقيقية -حسب تجربتي الشخصية في السويد – هنالك محاسبة تحدث لو تكرر لدى ذات المعالج نمط الزيارة الواحدة والانقطاع المتكرر لدى المرضى، الصورة البهية للمعالج والشهادات الرفيعة في وصف شرحه مهمة وضرورية، لكن لو كانت هذه الإكليشة تصنع زيارة واحدة لدى مرضى هذا المعالج بشكل متكرر إذن نحن أمام أزمة حقيقية.
هذه السلبية جعلتني اقترح سابقاً على أحد هذه التطبيقات فكرة أن يكون هنالك خصم عندما يطلب المريض رؤية ذات المعالج مرة أخرى، ذات الأمر الذي يحدث في العيادات الواقعية، هذا الخصم لتشجيع المريض على التمسك بالخطة العلاجية لأحد معالجيه وكذلك تضمن رفع نسبة التحسن وحتى على البعد المالي البحت هو ضمان تردد ذات المريض مكرراً على ذات التطبيق.
ملاحظات التجربة:التواضع التسويقي
التطبيقات للعلاج النفسي من الطبيعي التسويق لها وابرازها، الأزمة في ظنّي تحدث عندما يتم التسويق لها على أنها أداة جبارة لتقليل الوصمة المتعلقة بالإضطرابات النفسية أو أن يتم تسويقها على أنّها الحل الأمثل، كنت وما زلت أكرر أن التسويق على أنها أداة لتقليل الوصمة هو تسويق في ذاته يعزز سلبية الوصمة، هي كَمَن يقول أنّه من السوء أن ترتكب الخطأ في العلن لكن لا بأس بارتكابه في الخفاء، وقد يقول قائل أن تشبيهي فيه عدم اعتدال في الموازين وهو ربما كذلك، لكن مقصدي لا تسّوق أمراً بفضاعة الموازي له، نحن لا نملك وصمة في تطبيقاتنا الإلكترونية والوصمة فقط هنالك في العيادات الواقعية، هذه المقارنة التسويقية تعزّز الوصمة عن المجال النفسي برمّته، وممارسة أمر في الخفاء أدعى لتعميق وصمته في ذات المتلقي والمراقب للمشهد ولو انتهى بتلقّي المريض للخدمة، هي بروباقندا ربما تقلّل من وصمة الاضطراب النفسي لدى ذات المريض لكنّها لا تفعل ذلك للوصمة بمجملها.
هذه النقطة تقودني لنقطة أخرى، في وجهة نظري على القائمين على هذه التطبيقات مسؤولية أخلاقية في توضيح محدودية ما يقدمونه من خدمات علاجية عند التسويق عن أنفسهم، هذه التطبيقات هي بديل وقناة مهمة متوازية مع عدة بدائل وقنوات أخرى، هذه التطبيقات ليست الحل دائماً، هم – كغيرهم من العيادات النفسية الخاصة الواقعية – لا يملكون الحل لكثير من الاضطرابات النفسية وعلى المستفيد أن يعلم ذلك قبل حصوله على خدمة سواء في التطبيق أو العيادة الواقعية، هم محدودين في الخدمات المتعلقة بالإضطرابات الذهانية أو الأمور الطارئة الصعبة جداً مثل التهديد بالانتحار أو التشخيصات النفسية المتداخلة مع الأمراض العضوية البحتة أو العصبية أو المعرفية، محدودية خدمتهم وعدم امتلاكهم لفريق علاجي أو خدمات حقيقية على أرض الواقع للحالات الطارئة في أغلب أحوالهم هو أمر لابدّ أَن يكون واضحاً للمستفيد قبل ضغطة الزر المؤدية للدفع، لم أجرب خدمات التطبيقات من النهاية الأخرى كمريض لكن يمتلكني القلق على وضوح هذا القصور للمريض قبل اقدامه على التطبيق.
ملاحظات التجربة:أزمات متناثرة
الأزمات المتناثرة هي أمور نالتني وكانت مزعجة وسأذكر بعضاً من هذه الأزمات:
أزمة التدوين الطبي للمرضى في هذه التطبيقات تكاد تكون معضلة خفيّة وغير مهمة للمريض وللمعالج لكنّها أزمة قد تكون قاتلة للعملية العلاجية والتأطير القانوني للمسألة برمّتها، عدم وجود التنظيم لدى هذه التطبيقات بمسألة التدوين والملف المرضي لكل مريض في بعض الأحيان قد تكون شديدة الأثر لدرجة مخيفة.
أزمة التقنية في تقطع الاتصال وعدم وضوح الفيديو والصوت أمر مزعج ومضني وسبب كافي جداً يجعل العودة لهذه الخدمات الإلكترونية هو أمر ليس في حساباتي الحالية.
الخفاء لهوية المريض هي ميزة لكنّها في ذات الوقت شرخ وسلبية كبيرة للعملية العلاجية، في هذه النقطة حدثت مواقف غريبة جداً جعلت قناعتي بأن اخفاء الهوية للمريض لا يمكن على الإطلاق نَعتُه بالميزة بدون تعقيب وتوضيح، لكَ أن تتخيّل أنّك تحاول علاج شخصاً لا تعرف شيئاً حقيقياً عنه إلا جنسه من صوته .. حتى نقطة الصوت ليست بالضرورة غير قابلة للخفاء وأقول هذا عن تجربة.
حسب تجربتي الشخصية فإن السريّة للمرضى ليست شيئاً ملائكياً يستحق أحداً من الخدمات النفسية – سواء واقعية أو الكترونية – وصفه عن نفسه بالإطلاق، أن يكون الأمر الكترونياً هذا أمر فيه ما فيه من القابلية لاختراق السرية.
أن يحضر العمل العيادي لمكتبي بالمنزل وساعات يومي كزوج وأب هو أمر لم أُطِقه شخصياً، أن يكون تنظيم المواعيد وترتيبها والتدوين والأرشفة وكل ذلك هو أمر أقوم به شخصياً بدون فريق معاون هو أمر يستهلك الكثير من الوقت للمعالج.
أن ينقطع الاتصال هكذا فجأة بسبب انتهاء مدة الخدمة هو أمر كنت لا أطيقه بالبتّة، في العيادات الواقعية يحدث أن تطول جلسة مع مريض عن الوقت المسموح وهذا أمر طبيعي و قد يعود لاحتياج لا مناص منه، لكن أن ينقطع كل شيء هكذا هو أمر بغيض وأعلم أن تجنبّه فيه من الصعوبة الكثير وإن كنت أرى أنّ اعطاء المعالج بعض الحرية والتحكّم في تمديد وقت الجلسة الإلكترونية بدون مقابل هو أمر محمود وفيه لمسة عن نوايا التطبيق والقائمين عليه.
ختاماً .. عدم تلاقي الأجساد، عدم وجود الاحساس داخل الغرفة بين الطرفين، عدم وجود هذا الشعائر من التلاقي والتناغم ورؤية أغلب التفاعلات هو أمرٌ لابدّ أن يخدشَ من العملية برُمّتِها، حتى الاستقطاع الذي يحدث من وقت المريض والمعالج قبل الجلسة الواقعية وخلالها وبعدها هو أمرٌ مشمولٌ في لغة العلاج النفسي وأثره اجمالاً.
ختاماً .. هل سأعود لذات التجربة الإلكترونية مجدداً؟
لا أنفي ولا أؤكد .. ما أعلمه هو أن التجربة لو تكرّرت ستكون في أضيق الحدود وبمعايير أصعب.
Image drop
سامي سعد
طبيب متدرب في زمالة الطب العصبي النفسي بمستشفى ملبورن الملكي – أستراليا
البورد السويدي في الطب النفسي
استشاري مساعد للطب النفسي في مدينة الملك عبدالله الطبية بمكة
Diplomat in CBT + ISTDP psychotherapies