جهلنا بهذه الأمور أو علمناها؛ لكن على ما يبدو هنالك نوع من الرمزية لكل شيء محسوس أو غير محسوس في داخل عياداتنا النفسية مع مرضانا، الرمزية هذه قد تكون في محتوى هذه الأشياء ومدى تأثيرها على كل شخص بحدة أو على العملية كلها بذاتها والتنميط الذي يحدث منها، ذات مرة وأنا جالس بالعيادة لاحظت اقتراب فراغ هذا الصحن القابع في العادة على الطاولة بيني وبين مريضي، حينها شعرت بأن لهذا الصحن وما يحتويه مدلولات تدل على رمزيته داخل هذه المساحة العيادية، ربما أحمّل هذا الصحن ما لا يحتمل من رمزية لكنني سأفعل ذلك رغماً عنه .. فالأمر تطوّر إلى تدوينة من الضرورة تحميلها ما تحتمله هي على الأقل!
إن كان فرويد يزعم أن الطريق الملكي لللامَوعي فينا هو أحلامنا فإن هذا الصحن – على الأقل في بدايات فكرته – كان في ظني هو الطريق الملكي لعلاقتي المخملية مع مريضي، نعم .. صحن الشوكولاتة في إحدى رمزياته عندي هو عنوان بدايات نظرتي الملائكية الحالمة للعملية العلاجية وعلاقة المعالج مع مريضه، هي رمز لبداياتي المتعثرة وحماسي الغير منضبط حينها، هكذا كنت أرى الأمر وربما ما زلت باستمراري في جلب الصحن أينما ذهبت، الشوكولاتة في حساباتي هي فرحة عيد .. هي تعبير حب غير منطوق .. هي بادرة لطف ورسالة صداقة.. هي حنان أم .. هي تعبير أب غيرِ مكتمل .. هي كل هذا فلماذا لا تكون رمزاً للطافة في عين مرضاي وبذلك أتممت إحدى زوايا العملية العلاجية بلطف الشوكولاتة على لطف علاقتنا، ربما تكون هذه الرمزية لذيذة في منظورها وإن كانت السذاجة حاصلة فيها ولا أُواري.
من الدلالات التي تحدث في العيادة بسبب هذا الصحن هو أمرٌ عابر قد يحدث مع أي صحن آخر، لكن داخل العيادة النفسية لا بد أن يكون هنالك رمزيّة لهذه الدلالة، من العادة أنني أقدّم الشوكولاتة للمرضى حين انتهاء الجلسة العلاجية، المرضى بالأغلب – ربما من منطلق اللباقة – لا تمتدّ أيديهم للصحن ولو كانوا راغبين فيما يحتويه إلا إذا دعوتهم، أحياناً وبدرجة أقل أجدهم يستأذنون في أخذ حبة، حينها يحصل التضاحك العابر من أن هذه الشوكولاتة في الحقيقة لهم، لكن عندما تتجه عيني مثلاً لمراجعة ملف المريض أو فحوصات الدم على الجهاز فإنه من النادر جداً أنّ المريض يقوم بأخذ حبة من الشوكولاتة هكذا مباغتة أو ربما يأخذها هكذا في وسط حديثنا وعيني في عينه هكذا بدون لباقة الاستئذان التي تعارف الناس عليها وليست بالضرورة أساسية، هذا الأمر -أكرر- أنّه ربما يكون أمراً معتاداً في أي مكانٍ آخر لكن في العيادة لابد لرمزيته أن تحضر، هل هذا التصرف هي نتاج ديناميكية الموقف من قلق ما يعيشه المريض وهو يروي ما يروي فحصل هذا التصرف الهادف لتثبيط هذه المشاعر القلقة؟ هل هو الاحتياج القسري للسكر خلال تدافع ملح أمواج همومه؟ هل هو شعور الإستحقاق المرتفع؟ هل هي حدة طباع تخفي ما تخفي من ورائها .. أو كما قال القصيبي -رحمة الله عليه- أنها نرجسية لا تستطيع كتمان التعبير عن نفسها؟ وإن حدث هذا المشهد بعد عدة جلسات حينها هل المريض شعر بألفة المكان أم أنه دلالة على اهتزاز بعض من مواقع العلاقة بين الطرفين؟ مريضتي تلك التي كانت تعاني من القلق الاجتماعي لسنين ماذا يعني ترددها في أخذ الشوكولاتة في المرة الأولى وقبولها بعد عدة أسابيع بدون تردد الرفض؟ ولا أخفيكم حينها أن طلب المريضة هذه بالذات أعطاني من مدد الرضا الذاتي ما أكفاني زمناً طويلاً، هذه الأسئلة غيض من فيض عن مدلولات حبات الشوكولاتة وما زلنا في وسط تدوينتي.
من الدلالات الأخرى التي يحملها هذا الصحن وربما هي سبب بداية هذه التدوينة هي لحظات قرب فراغه من الشوكولاتة أو استمرار فراغه يوماً أو أقل من بعض أسبوع، حينها أسئلة الشغف تنالي بلا هوادة، ربما كل ما في الأمر أنني نسيت شراء المزيد من الشوكولاتة في طريق ذهابي للعيادة لكن عندما أتأمل اسأل نفسي: هل تناقَص الشغف؟ هل هنالك مريض صعْبٌ عليّ مساعدته وينال تفكيري ويصيب حماستي؟ هل على غرار قوانين باسكال الفيزيائية مع الهواء بأن لكل هواء وزناً ووزن هذا الهواء في صحني الفارغ هو الكثير من هموم الدنيا التي أنستني شوكولاتة عيادتي؟ وبالجهة الأخرى .. هل امتلاء الصحن هو نقيض هبوط الشغف وابتهاج لحظات كثيرة مع مرضاي الذين تحسنوا في تلك الفترة؟ لا أعلم حقيقةً .. لكن ما أعلمه يقيناً أن فراغ الصحن هو خيبة للسكر في عروقي عندما يتناقص فيه وقبله خيبة لزملاء عملي وقلة عدد زياراتهم لي في عيادتي.
من الرمزيات الدقيقة لصحن الشوكولاتة هذا هي تلك اللحظات التي تحصل بعد خروج مريضي من عيادتي، حينها إن تذكرت في آخر اللقاء بأن أدعوه لشيء من الصحن يأتي السؤال في بالي؛ هل هذه الدعوة هي دلالة على الجودة المرتفعة لهذه الجلسة وسعادتي منها؟ هل هي دلالة تحيزٍ شخصيٍ منّي عندما تذكرت معه بالذات دعوته على الشوكولاتة؟ أم أن هذه الدعوة منّي هي أمر يشابه كثيراً أمر حصان طروادة؟ عندما ضاق بي عتادي وشعرت بنقصان حيلتي كانت هذه الشوكولاتة هي محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ قد يبدو هذا مثيراً لكن إثارة الرمزية بحق تحدث عندما أنسى في دعوة مريضي على الشوكولاتة قبل خروجه، أنا في كل أحوالي أنسى تقديم الشوكولاتة لإنني ببساطة نسيت – أو هكذا أزعم – وحينها تحضر الأسئلة الأكثر عمقاً، هل نسيت بسبب إرهاق الجلسة وقلقها؟ هل نسيت لإنني -وأتمنى ذلك- كنت في غاية الاندماج في لحظات جلستنا؟ أم أنّ الأمر كان أكثر حساسيةً لإنني نسيت بسبب تحيزِ شخصي حدث بشكلٍ غير مَوعي وكان إنقالاً معاكساً لابد لي من التأمّل فيه؟ ما زلت أذكر مريضتي تلك السويدية حينما قالت لي فيما معناه: “كنت أخبر صديقاتي دوماً بأنك الطبيب الذي أحمل حبة من الشوكولاتة عندما أخرج من عيادته، لكنك في آخر مرة نسيت اعطائي .. وأخبرت صديقتي المقربة فقط بذلك” هذا الموقف لوحده يحمل الكثير الوفير من رمزية هذا الصحن!
ختاماً .. ربما إن كانت تساؤلاتي هنا أكثر من تصريحاتي فهذا أمرٌ أرى فيه الكثير من الخير، قد تكون هذه الكتابة كلها هي محاولة لتهدئة شعور مزعج يحدث فيني من عدم يقيني من دلالات صحن الشوكولاتة هذا ومن وجوده بالأصل، لكن نعمة عدم اليقينيّة أحياناً تكون نتاج زخم قوة أخرى من اليقينيّة في أمر آخر، ما أنا متيقّن به هي نظرات السعادة من مرضاي عند مغادرتهم عيادتي بحبة أو اثنتين من حبات الشوكولاتة، يقينيّة هذه اللحظة تجعلني اركن لفكرة أنّ هذه الشوكولاتة لا تتجاوز عن أنها مجرد محاولة من اللطف لا أكثر، ألا تعلمون أن مآسي كتابات الاغريق وشكسبير ما حدثت لتحدث لو أنهم تعرّفوا على الشوكولاتة حينها .. أو هكذا تقول الأسطورة!