S A M I S A A D
single blog
رسالة للطبيب المتدرب في برامج الطب النفسي
سبتمبر 14, 2024

هنا سأكتب تدوينةً ربما من الغريب أن يكتبها شخص ينتمي لعرف عالمي في ماهية وكيفية تدريب الطب النفسي، لكنني سأكتبها لإن ما أكتب عنه هو أمر لا ينتهي من وضوحه أمامي وأمام العديد من زملاء المهنة، ما سأكتبه هو موجه بالخصوص للرفاق السالكين في بدايات هذا المجال كأطباء متدربين في برامج تدريب الطب النفسي، ما سأقوله هو أنك في عدة مراحل في هذه السنين الأولى من تدريبك توجد نقاط متكررة من المفارقات بين ما تتدرب عليه وتقوم به وما يتم تقييمك عليه من جهة وبين ما تشعر فيه في داخلك بفطرتك الإنسانية على ما يُفترض أن يكون عليه الأمر في ممارستنا الطبية، في لحظات المواجهة مع مرضاك الآن وبالخصوص لاحقاً بعد نهاية تدريبك عند استقلالك الشخصي في عيادتك، ستجد صديقي الطبيب بأنّ هنالك بعض مما تم تقييمك عليه لم يقدم لك فائدة وأن هنالك الكثير مما تم طحنك من أجل اتقانه قد يكون هو أول ما خانك خلال ممارستك، بل أقول – وأنا هنا لا أبالغ بتاتاً – بأنّ هنالك ما تمت البرمجة عليه في تقييمنا وتدريبنا هو أمر ضرره أكبر من نفعه.

 

 

 

لذلك سأكتب هنا رسالة تتضمن عدة لمحات ولك صديقي المتدرب حربة التأمل والتدبر فيها، من أحد اللمحات أمر أسمعه بشكل ليس بالنادر وأنا أقوله للمتدربين معي بشكل نسبياً متكرر، أقول لهم قبل تقييم أي مريض جديد ندخل عليه في غرف المستشفى أو عياداتها، أقول لهم تناسوا أنكم أمامي وأنني أقيمكم خلال مقابلتكم للمريض، تناسوا ما تعلمته تكراراً من رتابة التقييم في اختباراتك، قم بأسلوبك الذي استخلصته من كل ما تعلمته، حاول التعرف على مريضك ولماذا حضر لعيادتك، أبحث فيه وعن ما يريده ولا تبحث عما تريده أنت“.

 

 

 

من أحد اللمحات دوماً كيف أنّ هنالك وحشين إذا حضرا خلال التقييم مع المرضى حينها يضيع المتدرب ويضيع معاه مريضه وثقته فيه، فقط إذا هنالك لمحة أعراض ذهانية أو فكرة لاقت بالأفق عن احتمالية تمنى الموت والانتحار عند المريض، حينها وكأن الطبيب المتدرب يصبح كالشخص الذي يتحسس سلاحه، يختفي عنه لماذا حضر مريضه ويغوص بلا هوادة في تقييم الذهان وتشريحه كله وكذلك تقييم أي ملمح وجودي يتعلق بالموت والانتحار في مريضه، أرى هذا بالأمر بشكل متكرر ومزعج وأضطر حينها أن أقاطع المتدرب – ولا أحب ذلك بتاتاً لكن لكمية الأذى التي أشعر بها – أقاطعه وأقول له: هل تشعر أن مريضك هو شخص ذهاني؟ هل تشعر أنه شخص سيقتل نفسه؟ والإجابة دوماً دوماً هي “لا”، إذن لماذا؟ من صنع هذين الوحشين في داخلك؟ انطلق وتعرف على مريضك جيداً أشعر به ويكفي معرفه حزنه ومزاجه بدون أي سؤال تسأله بالضبط عن مدى حزنه ومزاجه.

 

 

 

من أحد اللمحات كذلك هو أننا يبدو أننا كأطباء تمت برمجتنا في برامجنا الطبية التدريبية وبشكل ممنهج على التشخيص، هذا المنهج بالضرورة سيصنع -وبشكل غير مقصود – قلقاً حتمياً من أي نقطة فيها التقاء مع المعاناة المتجردة من هذه التشخيصات خلف ما يقدمه لنا مرضانا من أعراض وحديث، بحثك المضني عن التشخيص سيجعل مريضك يختفي، بل والأمرّ أنه سيجعلك أنت بذاتك كطبيب تختفي في عينه وسيختفي حضورك الوجداني في داخل مريضك، المواجدة تحضر بإختفاء هذا النهم الذي لا يبحث إلّا عن التشخيص، هذا الأمر سيصنع سياقاً تعيشه ولا تعلم أنك تعيشه من التوجس مع التفاعلات الإنسانية التي تحدث في عيادتك، هذا البحث عن التشخيص الذي سيختبرونك عليه خلال برنامج تدريبك ستنجح به في اختباراتك القليلة وربما ستفشل بسببه مع الكثير من مرضاك بسببه، هزيل ذلك المشهد من الرصف من الأسئلة على مريضك بدون أي اتكاء على الشعور الذي يحدث خلال التقييم والإحساس الذي حدث في داخل كل طرف من هذا التقييم، هذا للأسف ما يحدث عندما نعمل في تخصص طبي يتحزم بشدة بردائه الطبي وهو أعمق ما فيه وسره وجماليته في أنه تخصص الأصل فيه عدم احتزامه التام بردائه الطبي.

 

 

 

من أحد اللمحات التي لا تراها وأتمنى أن تبحث عنها هو الاختلاف الفكري والمدارس المختلفة من الذهنيات والعقليات في أطراف برامجنا التدريبية، يبدو لي أننا بشكل نسبياً واضح نفتقد لهذا التمايز – ولو بشكل صارخ – في مدارس التقييم والعلاج والتفكير، هذا الأمر أتمنى عزيزي المتدرب أن تتجاوزه، سافر للمدرسة المختلفة، أبحث وعرّض نفسك للمنهج المختلف من العقليات في أطراف برنامجك التدريبي، شد الرحال لذلك وذاك البعيد عن أرضك والبعيد عن أي منهج تعودت عليه، البقاء في مكانك سيجعلك وليد منهج وفلسفة وبرنامج شبه متوارث وتقليدي، صدقاٍ وهنا أقولها بتطرف ملحوظ؛ تخصصنا ربما يكون أكثر تخصص طبي تحتاج فيه للتعرض لمناحي أخرى من الأفكار والمدارس فيه، التحدي لك المتدرب ليس هنا وفقط، التحدي المتجاوز الذي أتمنى بشدة أن تعايشه وتتأقلم معه هو أن تمارس الشيء الذي وجدت نفسك فيه من خليط هذه المدارس كلها، أن تمارسه بهدوء في عيادتك وبطريقتك، جميل أن تقاوم السائد وجميل أن تدعو لما تؤمن به لكن للناس طريقتهم وللكل منهجه والكل – بما فيه نحن – قابلون للتغيير.

 

 

 

أكون درامياً عندما أقول أن الكثير من الموجود في المنظومة الحالية أمر هو من الضرورة استمراره حتى في حالة عدم اتفاقي الشخصي معه، لكنه تماشياً مع المنظومة الطبية كلها وكذلك انسياباً من التداخل الحتمي بيننا وبين العلوم الطبية بالعموم والعصبية بالخصوص، لكن ختاماً أقول لك إن كان هنالك أشياء تقوم بها في وضعك التدريبي الحالي ولا تتفق مع فلسفتها وأدبياتها فعليك أن تفعل ذلك الآن كي تجتاز هذه القنطرة من البرنامج التدريبي، أفعل ذلك لكي تنال شهادة التخرج، لكن الممارسة ليست كلها كذلك، اللحظة الحقيقية مع مرضاك ليست كلها كذلك، الشيء الذي جعلك ودفعك لكي تصبح طبيباً نفسياً سيبقى في داخلك يعاتبك ويخبرك بعد تخرجك بأنك لا تقوم تماماً بالشيء الذي من أجله أصبحت طبيباً نفسياً.