علىما يبدو أننا نعيش أحد أكثر العصور ازدهاراً للعلوم النفسية بعمومها والعلوم النفسية العيادية والصحية بالذات في نطاقنا المحلي الضيق بالذات وكذلك العالمي، أمور مثل ارتفاع وتنوع المستوى التعليمي بشكل عام وتعاظم التقديس للعلم المبني على البراهين (ولو كان بعضه مستورداً) والتجريم الجمعي الغير مؤسسي لمظاهر الوصمة الواضحة ضد الاعتلالات النفسية وكذلك تبعات الجائحة والتعطش الغير مسبوق من الناس لمن يقرأهم أو من يكون لهم سبيلاً للنجاة أو طريقاً لكبت دفاعاتهم النفسية وغيرها من الأمور التي جعلت الازدهار للمجال النفسي والعاملين فيه هو أمر من قبيل الضرورة وليس الترف، لكن بروز كهذا لابدّ أن يناله تعجّل وهفوات، وما أريد التركيز فيه في تدوينتي هنا هو أزمة تشبّث المجال النفسي في لغته وخطابه بالعموم بإيحاء خفي يصل للوضوح من تناول الأمور من نهاياتها الجزمية، هنالك جو من الآراء عن الحياة والإنسان ومعضلاته لا ترى بين سطورها مرونة عدم اليقين، خطابنا أصبح يستوي على عرش من زهو هذا الازدهار الحالي الذي يعيشه، أن تخاطب الآخر -ولو بتغريدة في تويتر- هذا يعطيك إيحاء من الفوقية وأن الجميع سيتبع ويتلهف لحديثك، وعندما يخالط هذا الأمر بعضاً من الرصيد المعرفي والتدريبي والكفاءة العلمية فحينها يصبح الداعي أكبر للثقة المفرطة في مكونات الخطاب، ومن استوى على أي مرتفع عن بقية من حوله لابد لخطابه من التأثر ولعل الميل للجزمية في لغته هي أبرز المتأثرات وهي ما لفتت انتباهي عن خطابنا النفسي.
في اعتقادي أن هذه الأزمة صنعت بعضاً من الحدّة -الغير مقصودة- في لغة خطابنا ورسائله وحتى نصائحه الإنسانية، هذه الحدة والاغراق في تأكيد المعلومة ويقينيّتها في الخطاب (وهو لبّ موضوع تدوينتي) أصبحت هي الأصل ومحك الكفاءة وأصبح التردد والتمنّع عن الحديث في أي مجال إنساني من العامل النفسي هو أمر فيه نقيصة لذات العامل من المجال النفسي، أزمة رغبتنا في الحديث عن كل شيء يسهّل من ليّ عنق نظرياتنا النفسية وعلمنا القاصر عن جلّها من أجل تفسير كل أمر يتصدّر الخطاب النفسي للحديث عنه، وهل تعلمون ماذا سيحدث حينها؟ حينها من السهل جداً أن تخوننا هذه النظرية عن تفسير كل شيء أو يخوننا علمنا القاصر عن محيط كل الجوانب النفسية من الأمور ولابد حينها من أن ينال لغتنا المزيد من الشدة والمنافحة من أجل الدفاع عن شخصنا -ولو بشكل غير موعي- وعن مجالنا وعياداتنا، هذه الحالة من الشد والجذب لابد لها أن تصنع تعصباً لرأينا ونظرياتنا، تعصباً يصل للدوغمائية عن الآخر وتحزباً لكل من يكون معنا بل ومن يكون حاملاً لشعار نظرياتنا النفسية الخاصة بتدريبنا ودراساتنا ضد كل من يرى أنها ليست الحل الوحيد ولو كان هذا الرأي المخالف من ذات المجال النفسي كذلك.
لذلك بعضٌ من المراجعة والتمعّن في خطاب هذا المجال ولغته هو أمر تقتضيه السياق الطبيعي للأشياء، ومقصدي هنا بــ (الخطاب) ليس المعنى الحرفي للكلمة لكن هو كل تمظهر مرئي أو صوتي أو كتابي لكل من ينتسب للمجال النفسي، وحديثي هنا بطبيعة الحال لا يراجع كل الخطاب النفسي وكذلك لا يراجع كل من فيه، هو بعض من بعض وشيء أفضل من لا شيء وأن يأتي النقد من أهل الدار خير من أن تأتي الحجارة من خارجه على نوافذنا الزجاجية الرقيقة بالمعنى اللغوي والاصطلاحي كذلك.
وربما من أبرز مظاهر الدوغمائية هي جنوحنا المتكرر للتأكيد على أن حلّ أزمات الإنسان وعلاقاته الإنسانية هو على الدوام من خلال نظرياتنا النفسية وعلمنا وتدريبنا وعياداتنا، هذا الإرتكان لعلمنا النفسي الصحي وإيجاد تفسير لكل قاصية ودانية تحدث في المجتمع هو أمر في بعضه منطقي وحقيقي وتقتضيه الحاجة، لكن أن يحدث التجاوز وجرّ المجال النفسي بجلّه لمناطق ليس هو لوحده من يستحق مناقشتها -إن استحق هذا الاستحقاق أصلاً- هو أمر غير حميد على المجال برمّته، هذه الاسطوانة المتكررة من لزومية زيارة المختص والحضور لعياداتنا هي بدون محالة ستصنع رأياً لابد أن يستميت له العامل في خطابه ويقاتل من أجله مما يصنح حدة بتكراره.
من المظاهر كذلك الدالة على المجزومية في اللغة سواء كانت ظاهرة في مقصود ما يتحدث عنه أو بإستخدام لغويات خفية هو مظهر الاغراق في استخدام اسم التفضيل عل وزن (أفعل) كأفضل وأقوى وأحسن وخلافه, استخدام اسم التفضيل يقتضي المفاضلة بين أمرين اشتركا في ذات الصفة أو المنفعة لكن إحداهما أفضل من الآخر، ولإن اللغة مرآة لسان صاحبها حينها الاستخدام المتكرر لمشتقات اسم التفضيل في عباراتنا يجعلنا بشكل كبير في النهايات الجزمية من الأشياء والأفكار، يعني ميلاً أكثر للفرادنية والنهاية الواحدة وعدم تقبّل وجود عدة أمور (سواء أفكار أو مشاعر آو نظريات) من الممكن أن تحتمل الصحة والأفضلية.
من المظاهر كذلك هو الحس الاحتكاري في الخبرة الإنسانية، هذه الخبرة التي للكل الحق في الخوض فيها والحديث عنها وعن ما ينالها وكذلك عن ما يحسّنها، التعابير المخفية والمعلنة من أن الحكم والفصل في المعضلات الإنسانية هي منطقتنا الخاصة هو أمر يستوفي الكثير من تعريف الدوغمائية في اقصاء الآخر ورأيه.
ومن المظاهر كذلك فيما يبدو لي هو ضياع الشريحة المستهدفة في خطاباتنا، أن تكون رسائلنا هكذا للكل وفيها طبع الحديث للجماهير حينها من الأغلب أن يكون حديثنا منبري وعائم، هذا الأمر يصنع ضباباً للمتحدث يقوم بتهدئته بتعضيل رسالته وكلماته وجزميتها كي يستقطب من يستطيع رؤيته وسط الضباب.
ومن المظاهر الملفتة كذلك هو اللباس المشاعري والعاطفي في ذات الخطاب وهنا لي تحليل، أن نصبغ خطابنا بالعاطفة هو أمر لطيف ومطلوب، المعضلة تحدث أن العاطفة تحمل سلاحين يزيد من حدة الخطاب، الأول أن الخطاب العاطفي جذاب وذو ايحاء جماهيري، عندما يحدث التجمهر حول أمر بشكل يدعمه حينها من الصعب عدم المبالغة في وصفه وتلميعه والحدة في مضمونه، السلاح الآخر هو ذات العامل المُرسل لهذا الخطاب، أن تكون عاطفياً في خطابك فحينها من الجهاد أن ترى أبعاد أخرى وآراء مختلفة عن مضمون خطابك.
من أزمات هذه الحدة في اللغة أنها تخفي خلفها ربما عقلية تكاد تكون جمعية من التقبل للنصوص بدون تمعّن، عقلية بدون شهية للخوض في التفاصيل من الأمور، عقلية اعطني من الأمور زبدتها ونصّها القاطع، هذه العقلية من الصعب أن تنضج وتصل بعيداً لفهم المنظور النفسي لأي أمر، هي عقلية -وبدلالات بحثية- لا تحتمل البحث عن المعلومة الأخرى والمختلفة، هي عقلية تكاد تكون دوغمائية بإمتياز.
وربما أكون متطرفاً في التحليل لكن يبدو لي أن من مسوغات وجود مثل هذه العقليات بطبيعة الحال المدخلات الثقافية وحرية الرأي المجتمعيّة وخلافها من الأمور، لكن كذلك هي عقلية ربما تكون نضجت على الموديل العلاجي الحاد في خطواته وجداوله المقننة المنمذجة على كل مريض يدخل عياداتنا.
والموضوع لا يقف عند عتبة التوقف عن التزوّد المعرفي لمن تمسّك برأيه وأجزم وأرعد فيه؛ لكن هذه الخصلة من الدوغمائية تطرق باب المواجدة العاطفية في العيادة لدى المنتمين بالذات لمدارس العلاج النفسي وتسبب في اضعافها، كيف للجازم في رأيه ونصحه أن يرى منظور الآخر في عيادته ومعاناته؟!
من الأزمات في هذه الدوغمائية في خطاب المجال النفسي أنها ليست بالضرورة جاذبة للمتلقي، المتلقي -حسب أوراق علمية مختلفة- عندما يواجه رسائل متكررة ومتلاحقة في أمر ما فإن تفاعله يترواح بين عدة أمور، منها التجنّب أو حتى تحدّي مضمون الخطاب، هذه المقاومة مفهومة لعدة تعليلات منها عدم رغبة المتلقي في الشعور بالتحكم ممن يشعره بالضعف أو شعور المتلقي بالخداع عندما يتوالى الجزم عليه، هذه المقاومة قد تصل للدرجة التي تجعل المتلقي على صمود أكبر على معتقداته السابقة المخالفة للرسالة الجازمة في الخطاب.
لهزّ مفاصل هذا الخطاب الجزمي علينا أن نعي بشكل جيد كأشخاص عموماً وخصوصاً بشكل مضاعف كعاملين في المجال النفسي أنّ عدم اليقينية هو أمر يكون إيجابي للغاية عندما يكون حاضراً لمنطقة الموعي منّا، عدم وجود هذه الفكرة في منطقة الموعي يعني عدم وجود تأثيرها بشكل كبير ولو زعمنا علم غير الموعي منّا بأهمية وجودها، أقول الجملة السابقة وأنا علم بعدم علمي اليقيني عنها لإنها مطرح نقاش وجذب في الأطروحات.
عدم اليقينية في المجال الصحي يصيبها الجفاف -حسب ورقة علمية مشهورة- عندما تنضب أحد مصادرها الثلاثة وهي عدم تحمل الشخص والمنظومة لمبدأ الاحتمالية الناتجة من الضبابية في المخاطر والمستقبل، وكذلك عندما تنضب قدسية الغموض بسبب محدودية المعلومات المتعلقة بالأزمات حول ما نسهب في الدوغمائية عنه، وأخيراً حتمية التعقيد في أي مسألة صحية نتناولها والتي تدعو لعدم الإسهاب في اليقينية، وهل هنالك ما هو أعقد من العقل والنفس الإنسانية؟
على الخطاب أن يكون واثقا متكأً على ما يستحق الاتكاء عليه من الدلائل، لكن الثقة لا تعني الفردانية وحدّة اللغة، قد يكون نقد هذه الدوغمائية في ذاتها دوغمائية مقابلة وما أكثر التحليلات عن شدة دوغمائية الليبراليين واللادينيين بالمقارنة بالمتشددين المعروف عنهم ديباجة الدوغمائية، لكن حينها سألوي عنق نظريات أخرى وأقول أن بعضاً من الدوغمائية هو ضرورة للدفع للأمام والمناضلة من أجل ما يستحق النضال من أجله، ألست في الأخير ابن من أبناء المجال النفسي ويصيبني ما يصيبه؟