تدوينة أكتب فيها للرفاق الأطباء و العاملين الصحيين في التخصصات الأخرى بعض أفكاري في الطرق التي أظنها جيدة كي يستخدموها لإقناع مرضاهم بزيارة المعالج النفسي عند حاجة المرضى لذلك
المستطاع في الإقناع
You don’t forget the face of the person who was your last hope.
Suzanne Collins, The Hunger Games
مقدمة ضرورية
أولاً .. شكراً رفيقي العامل الصحي لإنك هنا، أنت هنا لإنك ترغب كل الخير لمريضك، أنت هنا لإنك لا تؤمن بكثير من الأفكار السلبية عن ماهية زيارة الطبيب أو الأخصائي أو المعالج النفسي التي غرّست الوصمة، نحن و مرضانا و البشرية بحاجة لشخص من أمثالك.
بالبداية .. هذه الأفكار القادمة هي لأولئك المرضى الواقعين في الطبقة الرمادية من الشك لديك أنت أولاً و لديهم هم في ذواتهم، بمعنى أن المريض الذي تعلم يقيناً تاماً أن حياته و حياة غيره في خطر و يحتاج لرؤية الطبيب النفسي حينها تدوينتي هنا ليست لك لإن الموضوع ينتقل للمنطقة الإلزامية في التحويل، لكن لو كان المريض يعلم أن لديه مشكلة نفسية و يقينه فيها ليس واثق و أنت كذلك تعلم لدرجة اليقين حسب خبرتك الطبية (و ليس فقط لحظة شك قصيرة) أن مريضك يحتاج لرؤيتنا نحن معاشر العلاج النفسي بعمومه لكنك لا تملك الأدوات الكافية في إقناع مريضك .. حينها هذه التدوينة تبتغي قرائتك لها.
النصيحة الأولى:هل بالفعل يحتاج لرؤيتنا؟
كلنا بلا استثناء نحتاج لرؤية معالج نفسي للحديث عما يخالجنا و يحسّن من جودة حياتنا النفسية، كلنا نحتاج إلى صحة نفسية أفضل لكن ليس كلنا يعاني من مرض نفسي، قد يظهر أن نصيحتي بديهية لكن أحياناً كثير من الضبابية يحدث و نحن في عياداتنا خصوصاً إذا رأينا ملمح فكري أو نفسي على المريض قد يبدو غريباً علينا، حينها نبحث عمّن يفهمه أكثر أو عمن ينقذنا في حل معضلةٍ لا نفقه حلّها و يأتي حل التحويل للطب النفسي كالمنقذ على مسألة ليست بالفعل اعتلالية لكنها فقط غريبة علينا.
أظن أن علينا كأطباء أن نكون قريبين من تمام الثقة بأن هذا المريض في حاجة بالفعل لزيارة المعالج النفسي، لا تعرّض وقته و وقتك (و الأهم ثقته فيك) و وقت العيادات النفسية في أمر ليس بذلك الوضوح أو الحقيقة.
النصيحة الثانية:اسأل و اسأل .. ثم اسأل حتى يأتي الجواب على لسانه!
المريض في غالب الأمر لن يقتنع و لن يأتي إلى عياداتنا في الطب النفسي إن أنت أخبرته فقط بأنه عليه أن يأتي إلينا، المريض يحتاج إلى حديث و مناقشة في هذا الأمر الغير يسير على من لم يجربه من قبل، من أفضل الطرق في نقاش هذه الأمور هو طرح الأسئلة المفتوحة على المريض، على سبيل المثال:
*ما رأيك لو كانت هنالك أسباب أخرى غير جسدية تسبب أعراضك؟
*أحياناً كثيرة مع مرضاي هنالك فهم كبير يحدث لمشكلتهم لو تطرقنا للجانب النفسي .. ما رأيك في وضعك؟
*ما الأمور التي ترجح في ظنك عدم احتمالية السبب النفسي لأعراضك؟
*في خبرتي الطبية أن أعراضك (ربما و احتمال كبير) أنه قد يكون هنالك سبب نفسي لتفسيرها .. ما رأيك؟
*ما رأيك أن نجرب بأخذ رأي المعالج النفسي في هذه الأمور؟
و هكذا.. هذه الطريقة تجعل الإجابة تأتي من بنات أفكار مريضك و تكون أكثر قابلية للحدوث مقارنة بمجرد إخبارك إياه بضرورة زيارة المعالج النفسي، قد تتفاجأ أن المريض لديه تهيؤ و استعداد مسبق لهذه الخطوة لكنه يحتاج من يخبره أو يحمسه و أنت خير من يفعل ذلك، و كذلك لا تكن الأسئلة كمن يضع الفخ للمريض في آخرها لكن بصدق الهدف النهائي من هذه الأسئلة هو المحاولة للوصول لفهم لمشكلة المريض، و إن لم نصل حينها نسأل المريض أيضاً سؤال جديد .. ما رأيك أن نستشير معالج نفسي؟
النصيحة الثالثة:فن اللغة!
حسناً .. هنا مجموعة من الأفكار التي وجدت من الصعوبة توزيعها في عدة نصائح لذلك اخترت أن أضمها كلها تحت هذه النصيحة:
١- انحراج الطبيب في لغته و نكوصه الخفي أو الخجول عند نصح مريضه بأهمية زيارة المعالج النفسي لا محالة سيشعر بها المريض، ترددك في نصحه سيصاب به مريضك و سوف يقول إن كان طبيبي غير واثق أو متردد من الفكرة فلماذا أنا أحارب من أجلها،إحساس الطبيب الداخلي من أن نصيحته لمريضه بزيارة المعالج النفسي قد يحدث فيها نوع من التقليل أو الإهانة للمريض فهذه مشكلة عويصة لا محالة، أعلم أن الموضوع فيه صعوبة و علينا أن نعلم أنك رفيقي الطبيب ليس وحدك في هذه الحالة من الغرابة في المحادثة لإننا نتكلم عن منطقة مليئة بالوصمة السلبية للمريض النفسي، أنا هنا لا أبرر للأطباء و لكنني أحاول التفسير، علينا عندما ننتهي من نقاش بلورة فكرة حاجة المريض لزيارة المعالج النفسي أن نكون واثقين و الأهم واضحين في أهمية و فعالية و نجاعة فكرة زيارة مريضك للمعالج النفسي، قلها بلغة طبية علمية واثقة و مليئة بالتفاؤل.
٢- أنا من أول الكارهين لفكرة الربط المطلق بين الأمراض النفسية و الخلل العضوي في التوعية عن الأمراض النفسية و لي فيها تدوينة مطولة أطلقت عليها اسم عَضْوَنة، لكن في هذه الحالة مع مريضك المتردد في عيادتك حينها يجوز ما لا يجوز في غيره من الأحوال، قل له (بإحتمالية) هذا الرابط، قل له ذلك و اسرد عليه قصة ذلك المريض و تلك التي أشرفت عليهم و تحسنوا جسدياً بشكل كبير بعد تحويلهم للعلاج النفسي، التجارب الناجحة مغرية لتجربة أمثالها.
٣- نصيحتي التالية لا تقرأ بدايتها و تظن أنك تعلم مقصدي فيها، نصيحتي أن تكون اللغة في حثنا للمريض بعيدة عن الحكم على أفعاله و الفوقية و قريبة من التواجد مع مشاعره و التشجيع، عبارات مثل (كل ما تقوم به أدى لحالتك النفسية الحالية) أو (جداً يحزن وضعك) كلها عبارات قد تبدو أنها مليئة بالعاطفة لكنها بلكنة و إيحاء قد تكون جداً مؤلمة على المريض، أشْعِر المريض أن مشاعره حقيقية و آلامه من الصعب أن يتخيل أحد قسوتها و أنك تشجعه غاية التشجيع و أظن هذا كافي من غير بهارات أخرى.
النصيحة الرابعة:هيا بنا نقارن الإيجابيات و السلبيات
هل شاهدتم الصورة بالأعلى ،، نعم في تخيّلي هذا ما نحتاج لفعله مع مرضانا، أحضر ورقة و قلم و قسمهم هكذا لنصفين الأول لسلبيات زيارة المعالج النفسي و الآخر لإيجابيات الزيارة، و اكتبوها معاً بتجرد منك في كتابة كل ما يدور في بال مريضك، الكتابة على الورق كما يقول البكار هي كتابة في العقل، الأمور تكون أوضح عندما ننزلها على الورق، حينها ناقش بحياد أكثر كل سلبية و فندّها مع مريضك و أتفق معه في بعضها كي تكسبه في صفك، ثم ناقش كل إيجابية و ضخّم ما تستحق التضخيم منها، و بعد هذا و ذاك دع مريضك يقارن و يحلل لمن الكفة، هذه أحياناً خطوة كافية جداً لإقناع مريضك بزيارة عيادتي بعد تحويلك إياه.
النصيحة الخامسة:ليس من الأولى .. ربما من آخر زيارة!
نعم (آخر زيارة) .. كتبت العبارة في نصيحتي و كل ما بدر ببالي حينها حفلة لندن لأبو نورة و فائق عبدالجليل، لا تهربوا بعيداً لسماعها قبل أن أنهي و أشعر أن محاولتي فيها صعوبة، ليس المطلوب بتاتاً من مريضك أن يقتنع بزيارة المعالج النفسي من أول مرة تناقشه هذه الفكرة، دع الفكرة تختمر في رأسه و يناقشك أكثر فيها و ربما سيقتنع في آخر زيارة معك، شخصياً .. أشعر بالريبة ممن يقتنع هكذا فجأة من غير سابق تلميح لزيارة المعالج النفسي لكنني أتفائل و أسعد أكثر لمن تحصل لديه مقاومة لزيارة المعالج النفسي بالبداية من ثم مع الوقت يقتنع، الآخر أتى لعيادتنا بإقتناع فيه من الكفاية ما يجعل العمل معه مبشّر.
مقصدي لا تضغط على مريضك من النقاش الأول على موافقته، و لا تستلم من عدم اقتناعه من المرة الأولى و لا حتى الثانية، ربما بالفعل كما قال فائق عبدالجليل في أغنية أبو نورة أن البعض (تكفيه الإشارة) و دع الزمن يقنعه.
النصيحة السادسة:اعطه خط العودة
أشعر مريضك أنك هنا دوماً و بالفعل ستبقى هنا لو الأمر لم يفلح معنا، هذا الإحساس يجعل المريض أكثر شجاعة في تجربة الذهاب للمعالج النفسي، في غالب الأمر هنالك تخوف لديهم من التخلي عنهم لو انتقلوا من مكان لآخر و ليس فقط بين معالج و معالج آخر، هذا الإحساس من الآمان و وجود خط العودة محفز مهم.
النصيحة السابعة:إخباره بالتحويل .. نعم إخباره!
هنا اعتراف أقوله بألم، منذ بداية عودتي للعمل بالسعودية في أقسام التنويم بالمستشفى لا أذكر أن هنالك حالة دخلت عليها و المريض على علم بأن هنالك طبيب نفسي سيزوره بطلب من فريقه الطبي الأساسي، بل حتى عندما أطلب من الطبيب المحوّل أن يخبر مريضه برغبة الفريق أن أزوره لكي أفحصه فإنه في غالب الأمر لا يخبره أحد أيضاً، لدرجة أنني كنت في نقاش مع طبيبة و طلبت منها إخبار المريض بحضوري له فأصبحت غاضبة لإنها بالعادة تحوّل المريض و فقط و لا أحد يخبر المرضى لمن سنحوّلهم و لماذا أخبره بل علي أنا كطبيب نفسي أن أخبره بحضوري عندما أحضر!
رجاء بسيط: إن كان هنالك صعوبة في إتباع أحد النصائح الماضية فلا تتجاوز هذه النصيحة أو بالأصح الفريضة، علينا إخبار المريض بتحويله علينا، المريض ليس كرة نترامى بها بيننا، علينا أن لا نجعل المريض يتفاجأ برسالة زيارة لنا أو عندما يحضر للمستشفى يكتشف انه سيزورنا نحن بالعيادة النفسية.
النصيحة الثامنة و الأخيرة:إن نجحت .. اجعله يأتي متسائلاً!
ختاماً .. إن نجحت يا رفيق المهنة في مساعيك و اقتنع المريض في الحضور لعيادتنا للعلاج النفسي فأنت حينها أنجزت ما كان صعباً على الكثيرين و هذه النصيحة الأخيرة فقط كالحلى اللذيذ بعد الأطباق الرئيسية .. نسعد بطبق الحلى و من الممكن التعايش بدونه .. ربما ^ـ^
حاول في أن يأتي المريض إلينا و فيه فضول لكي يعرف عن نفسه أكثر، اجعله يأتي بعدة أسئلة كبيرة من الممكن أن نفتح معه أسئلة أصغر و ربما أكثر ضخامة، لا تجعله يأتي بسؤال واحد و فقط ،، لا تجعله يأتي لكي يسمع من أفواهنا جواب أنت أو المريض ذاته يراه هو الجواب الأصح و تريدون من المعالج النفسي أن يؤكده ،، و الأهم لا تجعله يأتي و في ظنه أننا نملك الجواب الحتمي، فقط حثّه بأن يسألنا و يسألنا و أننا معاً سنحاول في إيجاد الإجابة لهذه الأسئلة .. إن كان هنالك إجابة لجلّها.