S A M I S A A D
single blog
“الغير منطوق والكل يسمعه: تراجيدية التقييم النفسي على سبيل المثال”
فبراير 16, 2024

تدوينة شخصية في تقديس النقد في المجال النفسي بالعموم ولدى الأطباء المتدربين بالخصوص عن ذات الممارسة الطبية التي نمارسها

في أحد اللقاءات الأكاديمية لدينا بالمستشفى كنت حاضراً مع مجموعة لطيفة من الأطباء المتدربين وأطباء القسم، كان اللقاء عبارة عن قيام أحد الأطباء بتمثيل دور المريض وقيام طبيب متدرب آخر بعملية فحص هذا المريض الغير حقيقي وعلى بقية الأطباء تقييم هذا الطبيب حين قيامه بدوره في فحصه لمريضه، حسناً الفيصل هنا وسبب اشعال فتيل هذه التدوينة هي كلمة قالها هذا الطبيب لبقية زملائه عند تقييمهم له بعد انتهائه من عملية فحصه لمريضه الوهمي، كنا منهمكين بتقييم هذا الطبيب على معايير التقييم المعتبرة في الاختبارات التي تجرى لهؤلاء الأطباء حين تدريبهم وقبل تخرجهم منه، هذه المعايير تريد منك أن تنتهي من أداء مجموعة أمور مكتوبة على ورقة أمام من يختبرك ويقيمك في هذه الاختبارات، معايير متفق عليها بشكل محدد وبشكل آلي مثلها مثل أي برنامج طبي آخر، حينها قال هذه الطبيب المتدرب الجيزاني الألمعي كلمة عابرة لكنها مفتاح نقاش فلسفي أخلاقي لا نهاية له في مجالنا النفسي والذي لا يمكن أن يكون طبياً بالجُملة، قالها وهي كلمة كل طبيب يعلم في داخله أنه يمارس شيء لا يناسب اختلاف تخصصنا عن أي تخصص طبي، كلمة قالها وهي ربما على لسان كل طبيب متدرب في هذه البرامج التدريبية، قال هذا الطبيب بلغتنا الدارجة عندما سمع ملاحظات زملائه عن عدم قيامه ببعض الأمور الأوتوماتيكية الآلية المطلوبة منه القيام في الاختبارات على كل مريض بالرغم من اختلاف كل مريض، قال الطبيب: “ما أحس إني على طبيعتي!”

 

بعيداً عن كون أهل جيزان – في حساباتي – هم أهل شعر ونباهة ومخزون عاطفة لا يعرف النضوب، لكن هذا الصديق الطبيب بحق نال مني ما نال حينما قال عبارته، هو قال بشكل عابر وبلغة نقدية ساخرة ما ينبغي قوله وبصوت ناقد عن هذه الهزلية من القيام بأمور ليس من المنطق القيام بها حرفياً وبجلها، لا أريد هنا الخوض في ذات التفاصيل الصغيرة من هذا المشهد لكن أريد أن أخذكم لمنطقة مرتفعة أعلى من هذا المشهد لأركز على فكرة مهمة في المجال العلمي برمته والمجال الطبي بشكل أخص وفي المجال النفسي بشكل أدق وأقدس، ما أريدكم النظر له من الأعلى هو النقصان الشديد في الحديث داخل الأوساط الطبية لدينا بالذات عن نقد ما نقوم به من ممارسة طبية نفسية ووضعها على طاولة التشريح، في اعتقادي أنه من المهم جداً أن لا ننتقد ممارستنا فقط بيننا بشكل سري لكن علينا أن نتحدث في محافلنا العلمية السعودية وكذلك في سلسلة المحاضرات الأكاديمية للمتدربين عن نقد ما نعلمه ونعمله وما نقوم التقييم به وما نختبر فيه أطبائنا وضعف البعض من ممارساتنا العلاجية وكمية القصور في منظومتنا التشخيصية، أن نعطي المساحة لنقد هذه الأمور المفصلية والنقد لا يعني بالضرورة فقط مطارحة الجانب السلبي من الأمور، كذلك النقد لهذه الأمور الجوهرية يعني الزامنا أن نكون مقبلين على نقد التفاصيل الصغيرة في الأمور التي نمارسها مع مرضانا بالذات داخل عياداتنا وخلافه، وهنا أريد أن أخذكم للأسفل لمنطقة أصغر لشرح ما أقصده لكم بالضرب على سبيل المثال بتراجيدية التقييم النفسي، كيف للتقييم النفسي الذي يقوم به الأطباء المتدربين في اختباراتهم ومع مرضاهم في عياداتنا هو مثال لطيف على أمر نحتاج بشدة لنقده.

المثال:

في كل مرة أقوم فيها بتقييم ورقي للأطباء المقيمين أو أقوم باختبارهم حينها ألاحظ بشكل متكرر المدخل التقييمي للأطباء المتدربين، يكاد يكون جلهم تكون بداية التقييم النفسي بمدخل متكرر من طريقة: (ما هو اسمك؟ كم عمرك؟ حالتك الاجتماعية؟ فين تشتغل؟ … الخ)، هذه الإكليشة أستطيع القول باطمئنان جيد أنها مثال جيد يستحق النقد على كمية استمراره، ليس ذلك فقط، ولكن كذلك نقد أننا نقيّمهم وممكن لا نُجيز لهم النجاح والممارسة إن لم يقوموا بذلك في اختباراتهم، هذا الإحساس من الاستجواب في بدايات الجلسة التقييمية هو شيء سيجعلنا على أطراف حفرة من خسارتنا لمريضنا وإحساس الثقة في العلاقة الذي هو من أهم أواصر أي علاقة إنسانية فضلاً عن علاقة علاجية، من الممكن أن هذا الطبيب المتدرب في اختبار تقييمي خسر مريضه لكنه كسب الاختبار بسردية هذه الأسئلة الاستجوابية، وآخر كسب مريضه وربما لم يصل بعد لتشخيص مريضه (إن كان مريضه يملك تشخيصاً في الأساس) لكنه خسر في حساباتنا الآلية ولم ينجح لإنه لم يقم بالأسلوب الذي تعودنا عليه.

 

وهنالك مثال آخر في ذات عملية التقييم النفسي ألا وهو أزمة التفسير السببي الذي يتم حدوثه بمجرد الوصول للتشخيص، بمعنى أننا نحن كأطباء أو حتى معالجين أثناء المقابلة التشخيصية نقوم بعملية تتشابه كثيراً مع أسلوب اختبار الفرضية العلمية في أي مختبر علمي مادي بحت، نسأل عن هذا وذاك من الأعراض ونجمع بينها أملاً للوصول لنجاح فرضية تشخيصية اختزالية لمعاناة المريض، هذا الاختزال والفرضية المختبرية ستقوم بتعليل السبب وأن التشخيص الطبي النفسي هو سبب هذه الأعراض، هذا الأسلوب الافتراضي المأخوذ من المختبرات المادية وتطبيقها على الانسان سيصل بك لنقطة في آخر الجلسة التقييمية تقول فيها لمريضك أن المنتج النهائي من أعراضه هي مثلاً فرضية الاكتئاب مختزلاً معاناته الإنسانية بطريقة طبية لا تناسب المنطق الإنساني، في تلك النقطة حينها لو كان هنالك تبصّر من المريض ومن المعالج ستحدث أسئلة طبيعية منها على سبيل المثال (هل بالفعل الاكتئاب يفعل ذلك؟ ولماذا الاكتئاب حدث إذن؟ هل هذا كله من مخي؟ هل مقنع هذا كله؟)

 

هذه الحالة من وجود شيء نقوم به باستمرار وفيه ملاحظات لسلبيته لكننا لا ننقده هي حالة تستحق القول عنها أنها شيء يسمع الكل نشازها ولا ننطق بنقدها، وقس على ذلك أمثلة كثيرة للغاية تستحق النقاش، مثلا : اختزال التشخيصات للمعاناة الإنسانية، حشر المعاناة الإنسانية بجلها في دهاليزنا الطبية التي لا تستطيع استيعابها، الإغراق الدوائي في دوائرنا، محدودية التدخلات، ضرر بعض المرضى من المؤسسة النفسية، معيارية القبول والتقييم للأطباء المتدربين على أسس طبية مادية في أغلبها، التنويم الإكراهي وتمادي السلطة الطبية في ذلك ..الخ، هذه المظاهر هي أمور علينا أن نناقشها بيننا في مجالسنا العلمية والتدريبية قبل مجالسنا البينية وأقول أننا – على الأقل في محيطنا الطبي السعودي – نفتقر بشدة لطرح نقدي محمي في دوائرنا الطبية ينتقد هذه الأمور ويحللها، النقد لما حدث ويحدث هو أمر لابد منه لكي نستمر، الخوف من النقد في أغلبه هو خوف على الموروث والمكتسبات، النقد عندما يكون من الداخل هو أمر حيوي كالأوكسجين ولا أبالغ، الحركة الطبية النفسية إن كانت قوية بما يكفي فالنقد حينها يدعمها لا يؤخرها.

 

الطب النفسي هي مهنة لها تاريخها الفكري الفلسفي الطبي العميق في التاريخ، أفتخر بكوني طبيباً نفسياً وفي ظني الطب النفسي قدم للطب ما لم يقدمه غيره من التخصصات، لكنه على ما يبدو أن الإرث الدفاعي الذي استلزمه المجال النفسي علينا – كمهنة ذات تاريخ وصمي وتتعامل مع أمور غامضة فضلاً عن الأزمات البحثية في تدخلاتنا التشخيصية والعلاجية – جعلنا بالضرورة في موضع الدفاع والأصل فينا الحساسية من النقد، ختاماً ،، أقول لهذا الطبيب الجيزاني المتدرب عندنا والذي تضايق مما حدث خلال تلك الجلسة التدريبية، أقول له حافظ على هذا الضيق في داخلك، بسببه أنت أصبحت طبيباً نفسياً وبسببه ستستمر مشعاً، جيل طبي نفسي لم يمارس النقد في ظني قد خسر جزء مهم من فهم ما نقوم به ومن فهم مرضانا بالخصوص.