قبل قرابة (٣) أشهر في ولاية فيرجينيا تم القبض على السيدة شاروندا أفيري بتهمة ستدخلها السجن لفترة طويلة و هي تهمة ممارسة العلاج النفسي بدون ترخيص أو دراسة سابقة، هي عملت في عيادة و لمدة (٣) سنوات تعالج هذا و ذاك و تشخّص بالفوبيا و تعالجها و مما هو أخطر، و مع تكالب الشكوك حولها من المرضى تم الإبلاغ عنها، الآن هي تمارس عقوبة السجن للأسف ليس لمدة (٣) لكن لمدة ١٠ سنوات و هذا الخبر، و ببحث سريع وجدت شخصٌ آخر مارس الطب النفسي لسنوات في أمريكا و تم القبض عليه أيضاً قبل قرابة (٣) أشهر، الرقم (٣) يبدو أن قصته لن تنتهي هنا.
هؤلاء الشخصين وجدتهم هكذا ببحث سريع على النت و ما خفي كان أفظع، هذا الجموح للخوض في تخصصات الصحة النفسية بالحديث و النصح على غير المختصين مجال غني بالأمثلة و المآسي، ليس سراً أنني كتبت هذه التدوينة تفاعلاً مع تصدر الكابتن الطيار عبدالله الغامدي المتكرر عن تحذيره من تناول الأدوية النفسية لفوبيا الطيران و قوله بأن هذه الفوبيا ليس لها علاج نفسي و أخيرا قوله بأنه لديه العلاج النافع في (٣) دقائق عبر لقاء تلفزيوني، لن أتطرق لذات شخصه و اصراره على التصدر رغم تنبيه المختصين و الأدهى أنه تم تصديره تلفزيونياً لذلك و هذه أظنها سقطة إعلامية، قلت أظنها لإنني لست مختصاً و لن أبلع طعم ما أحذر منه، لكن سأتطرق لما أظنه أعمق من ذات المشهد الذي كان بطله الكابتن، طرح تحليلي أظنه يوعيّنا نحن أولاً العاملين بالمجال عن خلفيات هذه المشهد قبل توعية أي أحداً آخر.
لماذا .. بالفعل لماذا العلاج النفسي عن غيره من التخصصات (الصحية على الأقل) يتم هكذا جهراً في وضح النهار قيام غير المختصين به بالخوض فيه سراً و علانية و بل هنالك من يصفق لهم أيضاً،الجواب بحثت عن اجابته بالقوقلة في بحر النت فلم أجد إجابة شافية فأردت اختبار نفسي بتحليل هذا الأمر عبر فترة طويلة من التفكر و كانت هذه النقاط التالية التي أزعم أنها تحلّل جزء من هذا السلوك الإنساني:
١- هو علمٌ يلامسنا جميعاً
نعم .. ربما هذا يكون قد يكون السبب الأهم، النفس الإنسانية بكافة أحوالها هو أمرنا نحن كلنا بني آدم، هو ليس منطقة محصورة لأحد فينا كي يتحدث عنها هو فقط، كلنا ذلك الذي يحزن و يفرح و يخاف و يقلق و هكذا،لذلك الخوض بالحديث في خلاجاتنا هو حديثٌ حقه مكفول لكل بني البشر، و الحديث في موضوع اضطراباً مرضي باثولوجي بحت هو أمر ليس مكفولاً للكل لكن للمتحدث مبرراته -التي ليست بالضرورة صحيحة- للحديث عنها و وصف علاجها في دقائق، و لتوضيح الصورة خذوا على سبيل المثال (و مثالي هنا لا يحمل نية جيدة بتاتاً) إن جالست شخصاً يمارس الطيران فإن الكثير منّا لن يقتله الفضول للخوض في تخصصه لإنه ربما لا يهمنا من قريب و لا من بعيد كيف تطير الطائرة و كيف تقلع و كيف تهبط، الأهم عندنا أن الكابتن يركب الطائرة و يُوصلني من مطار إلى مطار و حبّذا أن يكون هبوطه ناعماً، الفضول لن يقتل الكثير هنا لإن الطيران شيء لا يلامسنا في دقائق حياتنا اليومية كما تلامسنا كلنا أحاديث أنفسنا و تقلباتها، بل حتى في ذات التخصصات الصحية ليس من الممتع بتاتاً للكل أن نعرف كيف للجراح أن يقطع زائدة ملتهبة، و هلى هذا قِس و تفكّر.
٢- وهم التحكميّة
ما المقصود بالتحكميّة هنا في نقطتي؟
أقصد بها اعتقادنا أن الشخص المصاب باضطراب نفسي هو (بشكل دائم و مطلق) يملك قدراً من التحكم في تصرفاته و قراراته و هذه التحكميّة هي ما جعلته مريضاً في بادئ الأمر و هي التي ستشافيه أيضاً إن أراد هو ذلك و تحكّم في نفسه.
نعم .. هي وهمٌ خادع و سهل الاستنتاج و له مضار سيئة إن قبلنا بهذه الفكرة بمُطلقها، غير المختصين هم لم ينالوا درجة من الممارسة و التدريب تجعلهم يدركون تعقيدات هذا المشهد الذي يجعل شخصاً يبكي لإنه فقط صعد الطائرة، هم كلهم كذلك لم ينالوا تدريباً لكن ليس الكل منهم ينخدع بهذا المظر السطحي لإن هنالك من هم من غير المختصين لكنهم يملكون من الفقه في النفس ما يمكنّهم من استيعاب أن هنالك تعقيدات وراء كل شيء، الغير المختص الناصح في الأغلب يظن أن الذي يعاني من هذه الفوبيا هو يحتاج إلى أمر بسيط كما يفعله ذات الناصح و هو ببساطة أن يقوم صباح الغد من نومه و يتذكّر ربه ثم نصائح الناصح له و هكذا ببساطة يستطيع المريض أن يتحكّم في نفسه و ينسى مشكلته و الدليل هو أن هذا الناصح يقوم صباح كل أيامه بدون مشاكل أو تخوفات نفسية، هذه السطحية من الفهم و عدم فهم تعقيدات النفس و القصة الطويلة التي حدثت قبل وجود أعراض مرضية كفوبيا الطيران مثلا تجعل الناصح يظن أن الأمر أيضاً بسيط لدرجة أن حله يحدث في (٣) دقائق، هو كما فعلت ماري أنطوانيت التي قالوا لها أن الشعب الجائع (فغردت) لوزيها بسطحية تامة أنهم عليهم أن يأكلوا البسكويت، و للتمعّن أكثر انظروا لحديث الكابتن في البرنامج هي مثال بديع و مؤلم لنقطتي عندما أراد في دقائقه ال(٣) العلاجية من المرضى التحكّم في أعراضهم المرضية بقوله أنهم هم من أدخلوا هذه الأوهام في رؤوسهم، الأكثر تطرفاً هو ظنّه بأنهم يملكون قدراً من التحكميّة لدرجة أنهم من الممكن أنهم يتحدّون المولى عز و جل في خوفهم و عليهم أن يطمأنوا و يخرجوا هذه الأفكار من أدمغتهم و ترك هذا التحدي، هذا الطرح يعلم الله قسوته و ألمه على المرضى، هو الآن كمن يقول لهم أنتم ليس لديكم من الإيمان بأقدار الله عندما تناول فرضية التحدي هذه، الذي يعاني لديه ما لديه من معاناة من هذه الفوبيا و الكابتن يناقشهم في إيمانهم بربط معاناتهم بإحتمالية ضعف إيمانهم، هذا الخلط بين التحكميّة و ضعف التدين و المرض النفسي هو خليط وصمي فيه عبث يزيد من تعمّق الوصمة في أبجدياتنا، و الكابتن -غفر الله له زلته- أوغل هنا ظاناً منه أن النفس البشرية كطائرة من طيراته يتحكم بها من نقطة إلى نقطة كما أراد.
٣- سحر الضبابيّة
مجالنا مجال الصحة النفسية خصوصاً هو ليس بذلك المجال الفيزيائي المحسوس بماديات الحياة ككثير من المجالات الأخرى، لكن مجالنا فيه تحدي اللامحسوس، فيه أن ترى غير الظاهر بالضرورة بل و أن تعالجه أيضاً، هذه الضبابية فيها ما فيها من السحر اللذيذ و اغراء الخلخال في أقدامها، هذه الديناميكية المتمايلة تسيل لعاب الغير متخصصين للخوض فيها، و ما يزيد خلخال مجالنا لذة أننا ما زلنا نملك فيه استفسارات كثيرة ليس لدينا فيها حلول و نحن المختصين به، هذه البيئة من الضبابية مغرية للآخرين أن يشاركوننا فيها و يزاحموننا في لقمة عيشنا و الفوز بنشوة منظر الحكيم الدال على الدرب الشافي فيه.
هذه الضبابية يشاركنا فيها بدرجات متفاوتة أيضاً مجالنا الصحي عموماً لإن الطب في حد ذاته مجال غني بالتفسيرات التي تتجدد كل يوم، لذلك تفسيراتنا نحن الأطباء اليوم قابلة للتغير بعد زمن و هذا يجعل الوثوقية في طرحنا غير قوية و هذا تتابعاً يجعل الباب مفتوح لكي يقول الغير مختص ما يقول بل و يدعم دليله بقوله أن الأطباء كانوا يقولون كذا و كذا منذ زمن من افتراضات الماضي و الصحيح هو كذا و كذا و دع عنك هؤلاء الأطباء.
٤- الآخر في مجالنا النفسي
علاجاتنا النفسية شئنا أم أبينا جزء مهم و منطقي منها يعتمد على (الآخر) أو المريض ذاته و على رغبته و جهده، لذلك مجال طبي و نفسي و حيثيات الكثير من أدبيات علاجه هي بيد الآخر هو مجال لا غرابة أنه يحمل اغراء كبير للآخرين لكي يشاركوا المختصين في تأثيرهم على الآخر و الرغبة في تحفيز قراراته، الغير المختص يظن بجهل أن المختص يفعل مثل فعلته في عيادته بدفع الآخر المريض للعلاج و التحسن و فقط و أنّ فك العقدة و ربطها بيد هذا الآخر، لذلك المعالج النفسي بشهاداته لن يكون أكثر اعتداداً بتحفيزه للآخر أكثر منّا نحن الغير مختصين.
٥- كيمياء بني البشر
مجالنا بذخ و مليء بتعقيدات كيمياء البشر و العلاقات، أنا و أنت يا صديقي المعالج النفسي و لو كنا نملك ما نملك من جودة و احترافية في فهمنا و علاجنا لمرضانا فإن هذا لا يعطينا الأفضلية المطلقة بأن مريضنا سنفهمه و سنعالجه بل لا نملك ضمانة أنه سيقتنع فينا من بداية الأمر، ربما مفتاح هذا المريض في موقف عابر يحدث خارج العيادة لسبب بسيط غير جوهري كمثال أنه ربما لم تعجبه نظارتنا الطبية و بالتالي لم تعجبه طرق علاجنا وربما و ربما ،، هذه الكيمياء البشرية المعقدة تجعل احتمالية أن يكون حلول تعقيدات مرضانا مفتوحة لأي تدّخل خارج عياداتنا و هنالك ألف و ألف مريض مستعدٌ لإخبارنا بثبوت هذه الحقيقة، هذا التعقيد يجعل الآخرين كُرماء في تدخلاتهم (و طيرانهم) على مجالنا و ظنّهم أنهم سيكونون هم الحل الذي عجز عنه الطبيب أو المعالج النفسي، يظنون أنهم سيكونون طرف ذلك المشهد قبل الأخير في الفيلم الهوليودي الدرامي و الذي فيه سيحلّون عقدة البطل النفسية أو الحياتية و خير دليل هو نهاية الفيلم السعيدة البعيدة بطبيعة الحال عن غرفة عياداتنا النفسية، المصيبة أن هذه الاحتمالية بالرغم من ضعف رجاحتها لكنها من الممكن تماماً أنها ستحدث و مرحباً بها إن حدثت إن أردتم الصدق مني.
٦- حظوظ النفس
هنا نقطة عميقة تحليلية لا أقصد بها أحداً لكنها هي فكرة تشرّبت ثبوتها عبر العمل بالمجال و كلنا سواء المختص أو الغير مختص يناله شيءٌ منها و غير المختص خطره أعظم، نحن عندما ننصح الآخر بنصائحنا التي نظنّ أنها ستساعد المضطرب نفسياً في محنته فإن هذا المشهد يعطي ايحاء غير مباشر لذاتنا و للآخرين -بطريقة لا مَوعيّة- بأننا لدينا من الصحة النفسية رصيدٌ كافي ما يجعلنا من فيضه أننا نعطيه لغيرنا بنصحنا لهم، هذه الإكليشة مغرية أيّما اغراء لأي شخص أن يكتب و يغرد و ينصح في مجالنا، هو بالضرورة ليس واعي و حسن ظنّنا أنه كذلك لكنها حقيقة بشرية محضة قد تخالج النفس حتى فينا نحن المختصين، اغراءات الخوض في هذا الميدان من النصائح العلاجية للمرضى هي أدعى لمن هم يملكون صحة نفسية جيدة و هذه الدلالة فيها رسالة لنفسنا قبل أن تكون للآخرين أننا بخير نفسياً و الدليل نصائحي العلاجية لهذا و ذاك.
ختاماً ..
لن أحارب الكابتن الغامدي في طرحه و الفضاء مفتوح للكل و أنت أيها الكابتن الأكثر علماً من الكثير باتساع الفضاء و سمائه و لن أتدخل هنا في علمك هذا و تخصصك (و نعم أنا هنا أشاغب معك في جملتي الأخيرة)،، لكن تدوينتي هي تحليلٌ للمشهد الذي أراه فيه و في غيره من الكثير
أشكر الكابتن الغامدي على أن دفعني لكتابة هذه التدوينة التي تكاسلت عن كتابتها و لو كانت كتابة هذا التدوينة نالت مني ما نالت من الوقت، لربما هي دلالة له أن ما قاله في (٣) دقائق في أمرٍ مهم بطريقة غير صحيحة علمياً هو قد احتاج من شخص عامل بمجال الصحة النفسية كحالتي الكثير من الوقت لتحليله .. فكيف بمعاناة مرضانا عبر السنين؟!