S A M I S A A D
single blog
الرائحة داخل غرفة العلاج النفسي
يناير 2, 2024

العطر والانتماء وباريس .. والعلاج النفسي!

 

هنالك مقالة لطيفة وجدتها وأنا أحضّر هذه التدوينة التي رغبت منذ فترة طويلة جداَ الكتابة عن موضوعها بطريقة شخصية لكن الطبيب الباحث داخلي رفض أن تخرج هذه المقالة بدون طابع علمي ولو على مضض، هذه المقالة تتحدث جزئياً عن فكرة الانتماء والحنين الذي يحدث داخل الطفل لرائحة بيته وأمه ووالده عندما يحدث الطلاق بين أبويه، الطفل يتحدث في المقالة كيف أن رائحة منظف الملابس الذي كانت أمه تستخدمه عندما كانت مع والده أصبح الطفل يربطها ببيته القديم، وعندما يذهب لزيارة والده في بيته الجديد وهنالك منظف آخر يتم استخدامه حينها يشعر الطفل بنوع من التشويش والارتباك للرائحة المختلفة وكذلك نوع من عدم الانتماء لهذا المكان، وهنالك أم أخرى في المقالة تتحدث كيف أن أطفالها يعودون برائحة أبيهم عندما يعودون من بيته بعد طلاقهم، تقول هذا – وهي تضحك – ولذلك تبدأ بغسيل ملابسهم أولاً لكن تظل الرائحة حتى في شعرهم!

“Wear perfume wherever you want to be kissed!”

Coco Chanel

الانتماء الذي تصنعه الرائحة .. والماضي المثالي!

هنالكأطروحات سابقة تحدثت عن أثر الانتماء الذي تصنعه الرائحة في ذهنية من يشمها وبالعموم عن تأثير المحسوسات (كالرائحة) على الوعي فينا، عن التفريق الذي يحدث بسبب رائحة معينة فيكون منبع هذه الرائحة هو أمر نرى فيه جزء من ال (أنا) وال (نحن) فيها ونصبح منتمين لها، أو يكون منبع رائحة مختلفة على الجهة المقابلة هو أمر نرى فيها (الآخرين) وليس نحن، هذه القدرة العجيبة الذي تفعله الرائحة على التضمين والاستبعاد أو على تقوية الأواصر وتدميرها، لعل الرائحة تفعل ذلك بشكل متكرر وغير ملحوظ لكن ما تفعله الرائحة كذلك بشكل أوضح هو تنشيطها لفكرة الحنين في داخلنا أو ال Nostalgia، قد يقول قائل أن رائحة عطر قديمة بالفعل قد تُذكّرنا بما مضى والحنين للماضي برمته، لكن مقتضى النوستالجيا بالعموم وبالخصوص مع الروائح هو تفعيل الحنين للماضي (المثالي) وتنشيط الذاكرة المرئية – كما يُطلق عليها في التحليل النفسي – للماضي المثالي الجميل بطريقة منتقاة وخالية من الذكريات السلبية وذلك في حالة دفاعية نفسية يقوم بها الغير موعي منّا بكبت هذه الذكريات السلبية حمايةً للأنا فينا، هكذا وأكثر تفعل الرائحة وزجاجة العطر وروائح المخابز أو الأطعمة التي تأخذنا شرقاً وغرباً لأماكن ولأشخاص نشتاق للبديع من ذكرياتهم معنا بزخم عاطفي مُبهج، والملفت أن هذا الحنين يكون شخصياً في احساسنا وفي شدة الخصوصية لذاتنا العميقة، ولكي يكون الموضوع حياً وذو رائحة لذيذة سأخبركم قليلاً عن مكتبتي العطرية، أملك قرابة ١٧٠ زجاجة عطر ومثلها من عينات العطور، اقتني الزجاجة تلو أختها وكالعادة عندما أشتري عطراً جديداً أفكر سريعاً في العطر الذي سأشتريه بعده، مكتبتي بنيتها في أقل من سنتين وهذا العدد لدى أهل العطور ليس بالكثير، وهنالك ثلاثة عطور بالذات عن غيرهم من العطور التي تصنع هذا الحنين للماضي المثالي والانتماء لطفولتي مع أبي، الأول وبدون منافسة شديدة هو عطر كارون (وأكاد أجزم أن الكثير يشاركني نفس شعوري) والثاني هو عطر أوپين والأخير هو عطر داكار نوير، سأشارككم صور العطور بالأسفل ولعل الصور لوحدها ستصنع بعضاً من الحنين والانتماء بل ربما قد تنشط المنطقة المسؤولة عن الشم في أدمغتكم.


الاعتلال عندما كان مربوطاً بالرائحة .. باريس مثالاً!

فيالقرون الماضية كان من الاعتقادات اللازمة أنّ الكثير من الأمراض القاتلة (مثل الملاريا والطاعون) تنتقل عبر الرائحة الغير جيدة، وفي عام ١٧٩٤ تم تعيين هذا الطبيب Jean-Noël Hallé كأول شخص مسؤول عن الصحة التعقيمية في باريس وذلك للحد من الروائح الباعثة للمرض، وهو ربما من أوائل من أضاف ثورة لللتاريخ العطري عندما وضع أساسيات وجود الروائح السامة المختلفة تماماً عن الروائح الغير جيدة وفقط، هذا التفريق صنع دلالات تموجية لفكرة الرائحة وكيف أن ليس كل رائحة غير محببة هي سامة وكيف أن الرائحة الغير سامة هي غير مرضية لكن بالإمكان اكتشافها وتحويرها لما هو قد يكون مقبولاً وبالإمكان الخوض في ذات نوتات الرائحة بدون الخوف من المرض.

هذا الربط بين الرائحة والمرض هو أمر فيه دلالة عن الأثر الفطري الذي تتركه الرائحة ليس فقط على الناحية الشاعرية من الانتماء والحنين لكنه كذلك تأثير جسدي مثبت علمياً مثلاً كما يعلم أغلبكم وجود علاج نفسي جسدي مساعد ويطلق عليه بالأروماثيرابي Aromatherapy مبني على هذه المعاني المتعلقة بالروائح عبر القرون والتي يُستخدم فيها زيوت عطرية بهدف اثارة العصب الشمي للتأثير على المناطق المسؤولة عن عواطفنا في دماغنا، من أشهر الأمثلة زيوت اللافندر والحمضيات وأثرها الإيجابي المعروف على القلق.

“In the course of time, a woman’s perfume is a more moving memory than a photograph of her”

Guy de Maupassant

وماذا يحدث داخل الغرفة العلاجية؟

هذاالخليط من الانتماء والشعور بأننا جزء من مكان وشخص معين فقط برائحته ،وكذلك خليط تأثير الرائحة العاطفي والجسدي، كل هذه الأمور تجعل من المنطقي تماماً أن فكرة الرائحة داخل الغرفة العلاجية هو أمر حساس ومحوري في العملية العلاجية والسياقات الحادثة حوله، ما هو الإحساس الحادث عندما يدخل المريض لذات العيادة ويشم رائحتها؟ ما هي المشاعر التي تتوالد وتسبب نوع من الغمر في العواطف عندما يدخل المريض لغرفة ذات المعالج ويشم رائحتها أو رائحة عطره؟ سيل المشاعر الذي كنا نناله عندما نشم رائحة أمهاتنا كيف له أن يتشابه مع شمنا لرائحة غرفة المعالج أو رائحة عطره؟

أذكر قرائتي لمقالات قديمة كيف أنّ بعض المرضى يشعر بحنين والدته مع رائحة عطر معالجته الذي كانت تستخدمه والدته، كيف أنّ بعض المرضى عندما يحلّل شعوره بالراحة في العيادة فتجده يصف أمور عديدة لكن أمر الرائحة يبقى أمراً أساسيا وكافياً لوحده أن يجلب معه بقية المشاعر الجميلة داخل الغرفة العلاجية، هذا التعلم الترابطي – كما يسميه أهل العلوم المعرفية السلوكية – الذي يحدث بشمّنا للرائحة والربط التلقائي الذي يحدث بكل هذه المشاعر والأفكار هو أمر من المهم وعينا به كمعالجين، النوع من العصابية التي تحدث مع روائحنا كمعالجين ورائحة العيادة هو أمر من العميق جداً الحديث عنه واستغلاله بشكل ملفوظ أو غير ملفوظ في سياق العلاقة العلاجية بين الطرفين.

 I have come to recognize that a tendency to osphresiolagnia, which has become extinct since childhood, may play a part in the genesis of neurosis.

Sigmund Freud – Osphresiolagnia is the sexual arousal through olfactory stimulation

هذه عطوري في العيادة، ما هي عطوركم؟

ختاماًقد تختلف أماكن عياداتنا والمرضى الذي يأتون إلينا، هذا الاختلاف بالتأكيد يجعل الخيارات المتاحة للنوتات العطرية والروائح بالعموم أضيق وأكثر محدودية، في الأصل أن استخدام العطور في المستشفيات بالذات ومع عيادات الأطفال بالخصوص غير محبب ورائحة النظافة هي أفضل رائحة بدون نقاش، كوني رجلاً – من منظور ثقافي اجتماعي – هو أمر له تأثيره وكوني شخصاً لي عيادتي الخاصة بعيداً عن المستشفيات كذلك يجعل خياراتي متسعة بعض الشيء، لكن بالعموم تبقى القاعدة العامة هي استخدام العطور التي تحمل نوتات عطرية مريحة وذات قبول وبطابع خريفي بعيداً عن العطور الثقيلة الشتوية أو العطور الشديدة في الحمضية، في تجربتي فإنّ الروائح الخشبية الهادئة مثل خشب الصندل وزهر اللافندر مع قاعدة من المسك هي روائح مريحة لذات المعالج أولاً قبل مريضه، في ذات الوقت – وهذا أمر غاية في الأهمية – أحب أن أختار عطراً يحمل بصمة مميزة مختلفة وليس بالضرورة صارخة، الاختلاف العطري يميز المعالج ويميز مكانه بالزخم العاطفي حوله عن أي مكان أو شخص آخر يحمل رائحة أو يستخدم عطراً شائعاً أو غير مميز بالبتة.

 

في عملي العيادي تنقلت بين ثلاثة عطور من بين جميع عطوري، أول العطور التي استخدمتها كان عطر Aqua Celestia Forte والذي أراه عطر مثالي لعمل عيادي، مشكلتي معه أنني لم أشعر معه بتوقيع عطري مميز وكذلك لسعره المرتفع وحموضيته بعض الشيء لذلك توقفت عن استخدامه العيادي، من بعد ذلك ولفترة طويلة جداً استخدمت عطر Meander Amouage والذي أقول بالفم المليان أنه عطر عيادي بديع لأي غرفة علاج نفسي وبإمتياز، فيني تخوف من كشف سر هذا العطر لكن من الأنانية أن لا أشارككم هذه الأيقونة، خشب الصندل فيه والعمق الذي يصنعه اللبان العماني يجعله عطر مريح وذو توقيع عطري مميز بالإمكان أن يتذكرك مرضاك عندما يشمو رائحته في مكان آخر وكذلك غير مؤذي وتماماً مناسب للجنسين، لا يوجد به عيب منطقي جعلني أتوقف عن استخدامه لكنني توقفت عنه لإنني وجدت زجاجة عطر أخرى هي ما نالت رغبتي خلال فترات الأجواء الحارة وما زلت استخدمه في كل عياداتي خلال الأشهر الأخيرة ألا وهو عطر Bois Impérial ، هذا العطر يدي تمتد له بوفرة وقلبي يقترب منه أكثر، هو عطر عيادي كما ينبغي أن تكون العطور العيادية، هادئ والخشب فيه يصنع عمقاً مريحاً وكذلك فيه أربعة أمور جعلتني أتعلّق به أكثر وأكثر به كعطر لعيادتي، الأول وجود نوتات الباتشولي ونجيل الهند التي تجعل العطر رجالياً بعض الشيء رغم أنه مناسب للجنسين، النقطة الثانية سعره الممتاز حالياً مقارنة بعطور أخرى، النقطة الثالثة هو أنه عطر غير صارخ تماماً وأحمله في شنطتي خلال عيادتي لعملي لاختفاء رائحته وسط اليوم، والنقطة الرابعة التي ننتهي بها كما بدأنا بها هذه التدوينة هو انتمائي الضمني لشخص العطّار الذي صنع العطر Quentin Bisch

 

 

ما هي عطوركم في العيادة؟ 🙂