الأمسذهبت للسينما لمشاهدة الفيلم، دفعت قيمة تذكرتي و كنت في طرف الصالة لازدحام القاعة، شاهدت الفيلم و نعم استمتعت بالتكوين السينمائي لكن الحقيقة ساورني الندم بأنني بعد انقطاع شهور عن السينما بسبب دراستي و أبنائي أعود على هذا العمل، نعم خطرت ببالي أفكار عن مالي الذي أهدرته بالتذكرة، كيف صرفت هذا المال على شيء أحد اهتمامات حياتي تقوم على عكس فكرته البئيسة المختبأة فيه!
بالبداية،، نعم ارهاصات العاملين على الفيلم قبل صدوره في الرابع من أكتوبر كانت مركزة على أن الفيلم لن يكون عن الجوكر الذي نعرفه في أذهاننا لكن عن تعليل بدايات الجوكر، إذن عليك كمشاهد حذق أن تشاهد الفيلم ليس بأنه شيء مختلف عن شخصية الجوكر في بقية الأفلام و القصص المصورة، لكنه بداية لامتدادات عنيفة و مليئة بالدماء و القتل و الوحشية، خصوصا (و هنا نقطة محورية) أن الجوكر لم يكن بتاتاً انساناً يحمل اسم أو تاريخ لكنه فقط رمز للوحشية الغير مبررة، إذن الفيلم هو محاولة لاختراع مصدر اعتلال هذا الجوكر و توضيحه سيكون هنا في هذا العمل السينمائي (و إن كانت هنالك تعليلات مختلفة قديمة تم طرحها لشخصية الجوكر في الأفلام السابقة لكنها غير موحدة و مختلفة و لم يكن منها عمل هكذا خاص عن بداياته)، هذه المقدمة مهمة لتوضيح أهمية هذا العمل السينمائي.
حديثيهنا سيكون عن هذا الطرح المرتبك بكل ما تحمل الكلمة من معنى في شخصية الجوكر في هذا الفيلم من جهة و المرض النفسي من جهة أخرى، الفيلم بالمناسبة كان هنالك قلق أكبر قبل صدوره حول فكرة اشعال فتيل التمرد بين المتابعين و شحن فكرة هذا الجسر السريع من عدم الشهرة للشهرة السريعة بالعنف حتى أن شرطة نيويورك أعلنت أن صالات السينما ستكون مراقبة من أفرادها بالأسبوع الماضي حين نزول الفيلم، لكن الحقيقة أن المصائب التي للآن جلية مع الفيلم هي مصيبة الوقود التي سكبها على النمطية الوصمية ضد المرض النفس، لكن ما المقصود بالنمطية؟
النمطيةهي (بإختصار يعتريه النقص) صنع افتراض أو فكرة بالأغلب سلبية عن مجموعة من الناس لهدف معين، في اطروحات الوصمة النمط هو أن تصنع هذه الفكرة لتبرر أو تفسر الجانب السلبي لهذا التقسيم، من يبحث عن النمطية في الوصمة هي ربما ترتبط أكثر بالتقسيمات الجماعية التي من الصعب التحكم فيها كالجنس و الأصول و الجنسية و المعتقد، لكنها تدخل بشكل أكثر نعومة على المصائب التي تعتري ذوات الأفراد كالمرضى المصابين بالاعتلالات النفسية، البُعد الوظيفي للنمطية عندما تحدث فهي تظهر على تبرير تقسيم هؤلاء الأفراد، مثال ذلك هنا بالجوكر كيف أن العنف أحد مبرراته هو المرض النفسي فالنمط الحاصل أن المرضى النفسيين يمتازون بجانب عنيف و أن العنف من السهل اجتذاذه بمقاومة مرض الاعتلال النفسي، هذه النمطية كذلك لها مصائبها بفقدان المعلومة الحقيقية عن ذوات هؤلاء الأفراد لإننا جعلناهم في نمط مسبق بأذهاننا و الأدهى الحاصل هو ضياع ارتباط المشكلة (كالعنف مثلا) بغير أفراد هذه المجموعة كالأصحاء النفسيين على سبيل المثال و الذين بناء على هذا النمط هم أناس لا يرتكبوا الجرائم، ناهيكم عن نواحي سلبية كالتقليل من قيمة الذات لهؤلاء المرضى و تجنب طلب الخدمة العلاجية و التقييم الانحيازي ضدهم و التحامل قبل التواصل معهم و خلافه (و للنمطية توظيفات إيجابية لكنها ليست محور طرحنا)، لكن ما دخل فيلم الجوكر؟
حسناًدعوني أقول أنني و أنا أشاهد الفيلم شعرت أن الكاتب (أو الكاتبين في حالة هذا الفيلم و هما المخرج تيد فيليبس و سكوت سيلفر) قام بفتح كتب المراجع في الأمراض النفسية بنية أن يجمع من كل فصولها أكثر شروحاتها و أوصافها شدة في الاعتلال، هو قام بأخذ الاكتئاب و كرب ما بعد الصدمة و ألصقه في الجوكر، قام بجعل طفولته مليئة بالصدمات و الدليل شخصيته المضطربة المتعلقة بوالدته و قلقه من انفصال علاقته بها، جعله يعيش محنة فقدان الأب و وهم الأب في الآخرين سواء بدور روبرت دي نيرو أو في شخص ثوماس واين، هو جعله أيضاً ربما يعيش هلاوس بصرية بمصاحبة فتاة جيرانه كأنه أحد مرضى الفصام و الفصام أكثر ما يكون ابتعاداً عن الجوكر الذي نعرفه في قمة الاحترافية و التنظيم في جرائمه و مريض الفصام أحد أبسط أوصافه التشخيصية هو عدم القدرة الوظيفية في أغلب أمور حياته، جعله كالباحث عن هويته التي يستعيدها مع كل قتل يقوم به كأن فيه لمحة من نشوءات اضطراب معاداة المجتمع، حتى أن يواكين فينيكس خسر قرابة ٢٣ كيلو من وزنه و هنا يتسائل الكثير هل المقصود بذلك الملمح المرضي الإيحاء بأحد اضطرابات الطعام التي كأنك ترى أحد مرضاها في جسمه خلال أحداث الفيلم، الكاتب لم يقولب الجوكر في تشخيص واحد و ليته فعل لكنه أخذ من كل فصلٍ مرضي وصف أو وصفين، بل حتى الأم لم تسلم و كانت مشخصة بالنرجسية و الضلالات الفصامية، إذن هي ساعتين قائمة على حبكة المرض النفسي و أي حبكة اخرى هي ثانوية إلى حد التجاهل و النسيان في تكوين شخص الجوكر، الجوكر الذي قدمنا له بأنه رمز الوحشية و اللاهوادة في القتل هو في نظر الفيلم انسان تكوّن على تربة المرض النفسي، الجوكر الذي لن تجد تشخيصاً واضحاً خلال تاريخ هذه الشخصية يمثل أوصافه بشكل مميز هو في هذا الفيلم خليط كل الاعتلالات و أكثر، نعم وصف السايكوباثية هي الأقرب في تاريخه لكنها بهذا الفيلم لم تتضح و لن يستطيعوا علمياً لإن السايكوباثية لا تظهر هكذا في منتصف العمر من اللاشيء.
نعم.. حاول الفيلم بنية جيدة إبراز فكرة غياب الدعم عن المراكز المختصة للصحة النفسية و كيف أن المجتمع انطلاقاً من مقرري سياساته حتى لواجهاته الإعلامية التلفازية لا تدعم المريض بل تزيده مرضاً، نعم أبرَز الفيلم مسألة خفية مهمة و هي احتمالية عدم الاحترافية في مقدمي الخدمة للمرضى النفسيين و هذا مُثبت بالدراسات، نعم أبرَز الفيلم غياب الأب عن المشهد و تأثير ذلك على نفسية الطفل، نعم هذه الجملة الظاهرة بالأعلى في الصورة كان لها أثر بديع و تعاطفي مع المرضى، نعم حاول الفيلم و حاول .. لكن كل هذه الرسائل بطريقة غير مباشرة تم وَأدُها بفكرة مفادها أنك لو لم تقم بمساعدة هذه المرضى فخمّن ماذا سيحدث؟ نعم سيصبحون الجوكر، حتى كلمة (غير مباشرة) في جملتي السابقة أظنها وصف خاطئ لإن الرسالة كانت مباشرة و الدليل آخر جمل الجوكر حينما سأل دي نيرو سؤالاً اعتباطياً بقوله قبل قتله: ”ما الذي ستحصل عليه عندما تُعرّض مريضاً نفسياً لمجتمع يهجره و يعامله مثل القمامة؟“ ، حسناً الجواب على هذا السؤال كان بخرق رأس دي نيرو برصاصة و أختها و الأهم بداية ظهور الجوكر المتوحش الذي نعرفه، هذا المشهد يقول لك بطريقة أخرى أن وحشية الجوكر تم هنا تبريرها بمحورية المرض النفسي في كل حياته، نظرة سريعة على حوادث القتل العشوائي التي حدثت في أمريكا بالسنوات الأخيرة ستجد أن مبررات مرتكبيها كانت الرفض أو العنصرية أو كره الذات، لكن الجوكر عندما نال منه المجتمع خلال مرضه فهذا كان كافياً لإيقاظ وحشية المرض النفسي الكاذبة فيه، بل حتى أن البُعد السياسي في شخصية الجوكر (التي طالما كانت مرتبطة بالجوكر في تاريخه السينمائي و الروائي و لو بملح ثورة المجتمع) تم قتل فرضيتها في هذا المشهد عندما نفي الجوكر اهتمامه السياسي في المشهد الأخير، إذن هنا عمل سينمائي لمدة ساعتين سيخرج الملايين من قاعات عرضه بتغذية فكرية لنمطية و حالة الزواج بين المريض النفسي و العنف، هي معول آخر في حفرة عنوانها أن المرض النفسي هو تفسير تلك الدماء و لا غرابة فالكل يعلم ذلك.
هذهالنمطية حول المريض النفسي هل تظنون أنها كانت لعنة الفيلم الوحيدة اتجاه المرض النفسي، حتماً لا .. ففكرة الأدوية السبعة كلها لا تعمل لإنه مريض نفسي و المقزز أنه بدأ بالعنف بعد التوقف عنها، و المقزز أكثر تصريحه بأنه أفضل بدونها، اطروحات أن العلاجات الدوائية ليست الملاذ الأفضل للأمراض الذهانية أصبحت اطروحات بالية بتراكم الدلائل و لو كان العلاج الدوائي ليس الحل الرائع لكنه حتماً الحل الأفضل حالياً لهذه الأمراض الذهانية، هذه الرسالة المبطنة (ذات الحبكة السينمائية الهوليودية المهترئة من كثرة استخدامها) من أن الأدوية حياتنا سوف تكون أفضل بدونها كانت مفصل وصمي آخر لذات المرضى، هل تظنون أن توقيت نزول الفيلم القريب من تاريخ ١٠ أكتوبر (اليوم العالمي للصحة النفسية) جاء هكذا عبثاً؟
لميكن الجوكر و بصمته النمطية ضد المرض النفسي بالشيء الجديد في هوليوود، هذا الرخص من طرح المرض النفسي في الأفلام مُثبت تاريخياً و عبر السنين، تغيرت الوجوه و المتغير الأكبر هو ضراوة الوحشية في الطرح مع الكثير من الاستثناءات، هذا الفيلم لمن دقّق يرى أنه مقطع موسيقي جديد سيرقص عليه ذلك الرجل في مكتبه البيضاوي لإنه أشهر من ردد أن مشكلة أمريكا ليست في وفرة أسلحتها لكن في الأمراض النفسية، لم يعلم أن المرضى النفسيين هم في حقيقة الأمر حسب تراكمات الدراسات و هذه أشهرها أنهم هم الضحايا للعنف و لو كان لديهم اتجاه عنف فالأغلب أن العنف سيكون اتجاه أنفسهم.
سيُقالهذه حبكة السينما و دع السينما لأهلها، أقول نعم .. يواكين قام بدور العمر له و لا نقاش على ذلك، لكن الجوكر تاريخ من الكاريزما المتراكمة عبر السنين في أذهاننا، الكاريزما هي الجوكر و الجوكر هو الكاريزما، كان الجوكر رمزية للوحشية لكنه كذلك كان رمزية للدهاء و الكوميديا السوداء، أنت ككاتب لا تتوقع مني كمشاهد أن أدخل للفيلم و هذا الأرث من رمزية الجوكر أضعه خارج القاعة، هذه الهزلية من الجوكر لم نراها في جل الفيلم و هذا منطقي إلا ربما في خطواته الراقصة الأخيرة، كيف لذاك الجوكر الحاضر في تاريخ ذهنياتنا أن يتكّون من هذا التراكم من الضعف الذي تم تغذية عقولنا به طوال الفيلم به، نهايات الفيلم لم ترن أجراسي لتشعرني أن هذا الجوكر هو بدايات ذلك الجوكر هيث ليدجر .. تلك الكاريزما في أقصى عنفوانها مع هيث ليدجر، لعل شخصيات الممثلين تصبغ ذات الشخصيات السينمائية الروائية بفن السينما لكن هذه المعادلة تتغير بعض لعبتها في شخصيات مارفيل الكارتونية، قيام ممثل معين بتمثيل دور أحد هذه الشخصيات الكرتونية بإحترافية تجعل هذه الشخصية الكرتونية مرتبطة و مصبوغة بهذا الممثل و تقتل صبغات الممثلين الآخرين الذين يقومون به مما يجعلهم ربما في سلم المقارنة مع ذلك الممثل الذي اتقن الدور، نعم بملء الفم و الوجنتين .. دور هيث ليدجر كان اسطورياً حيث كان الجوكر في عنفوان كاريزمته حرفياً، لذلك الجوكر البعيد من هذا الجوكر صنع مسافة كنت شخصياً حين مشاهدتي للفيلم أتعطش لشيء أوضح يقرب بينهما هذه المسافة في نهايات الفيلم.
كذلكمفارقة لَي ذراع الأحداث بتصوير ثوماس واين بأنه ثري يهتم فقط بمصالح نفسه و طبقته كانت أيضاً محاولة غير حكيمة لإيجاد مبررات اجتماعية لظهور شخصية الجوكر و كلنا يعلم أن واين والد باتمان كان معروفاً بضميره الحي لمجتمعه خلال هذه السلسلة، حتى أن البُعد الثوري كان مصطنعاً و إن كانت هنالك مقدمات بمسألة الفئران و المرض و فقر عائلة أرثر الجوكر لكن لم أرى حبكة تجعل انتشار الأقنعة بين الناس أمراً منطقياً بالأحداث، كانت الثورات بالأغلب تقوم على مبدأ واضح لكنها هنا بالفيلم قامت على مشهد أن رجلاً قتل ٣ آخرين في عربة قطار و من بعدها هكذا فجأة أصبح هنالك عدة أقنعة بالمدينة، التبرير الاجتماعي للثورات مفقود نصياً في أحداث الفيلم و هذا بالمناسبة من أبرز ملاحظات الفيلم عند العديد من النقاد التي لعلها كانت مقصودة من الشركة المنتجة منعاً لتصاعد حالات مشابهة بعض عرضه، الجدير بالذكر أن تود فيليبس (المخرج و أحد كاتبي الفيلم) ليس درامياً بالبتة، هو كوميدي في أفلامه و له أفلام جيدة لكنه في تصريحاته الأخيرة قال أن الكوميديا ماتت بسبب المجتمع المتنور و بالطبع أهل الكوميديا أقاموا الدنيا على رأسه بسبب هذا التصريحات التي فسروها بإفلاسه كوميدياً.
ختاماً.. فيلم الجوكر هو بالتأكيد علامة فارقة في يواكين و الأهم في مفهوم الجوكر لدينا كمتلقين، الأوسكار لا محالة سيقترب منه كثيراً بعد هذا الأداء الغير مسبوق، كمية البذخ التقمصي من يواكين في الشخصية كان مذهلاً، ربما هي الإشكالية أنها تعاني أمام الجوكر المتعشش في مخيلاتنا، و الأهم من تدوينتي من ناحية الوصمة ضد المرض النفسي أنه كان من الواضح احتواء الفيلم على نوايا تبدو حميدة اتجاه قضية المرض النفسي، لكن رسالة الفيلم و حبكته كان مضطربة و مربكة و غير واضحة الحدود بين التعاطف مع هؤلاء المرضى من جهة و تبرير هذا العنف الدموي بمرضهم من جهة أخرى،