هنا عن شيء وقبل أن اكتبه ترددت قبل المرة مرات عديدة، تردّدي سببه هو تخوّفي من أن يقرأ هذه التدوينة أحدهم ممن قابلتهم اليوم، لكنني عزمت أخيراً على الكتابة عنه وكتابتي ممتلئة بحبهم قبل حب المجال النفسي.
قبل أسبوع بالضبط انتهى الحظر في مدينة ملبورن في أستراليا، حظر هو الأطول على وجه البسيطة بسبب كوڤيد، وهذا اليوم قرر مجموعة كبيرة من المبتعثين هنا اللقاء في منتزه، هو لقاء ربما الأكبر لي بشكل شخصي حرفياً من سنين، عندما كنت بالسويد خلال سنواتي الستة كنا المبتعثين على عدد الأصابع في ستوكهولم وعندما عدت للسعودية كانت كورونا وكلكم تعلمون القصة من التباعد الاجتماعي، وهنا عندما حضرت إلى ملبورن قبل أقل من ٤ أشهر كان هذا اللقاء الأول وكانت معه هذه التدوينة.
أنا لست بالاجتماعي في علاقاتي، أحاديثي في الجلسات الكبيرة تكون صغيرة الدوائر وبالقرب ممن أعرفهم ولو تداخل أحد لا أعرفه معي في دائرة صغيرة حينها أغوص فيها معه، عادة تكون اجاباتي مقتضبة إذا كبرت الدائرة وتكون عديمة التفاصيل مليئة بالتغافل والاحتمالية وتجنب التباهي، من لا يعرفني سيراني كالشخص المنزوي أو ربما المتكبر وهذا أتفهم حدوثه من طبيعة شخصي ومتعايش معه، أذكر هذه الأشياء لكي تفهموا ما سأكتبه بعد قليل وأذكره ليس تفاخراً بروعته ولا تفاخراً كذلك بمدى سلبيته، لكن أوصفه لإنني هكذا بدون تفصيل أكثر.
من قابلتهم اليوم أغلبيتهم أقابلهم للمرة الثانية والمرة الأولى كانت سريعة في حدود ضيقة، بدون تجميل وأعلم علم اليقين أنه في غالب الظن لا يوجد أحد منهم يعلم عن مدونتي فضلاً عن حسابي على تويتر، لكن بدون مبالغة هم شباب تملأهم النشامة والرجولة والأصل الطيب من صحراء هذه الأرض، هم من لا تسمع بينهم سفيه القول وكفى بهذا الأمر فضلاً، قلوب ترى بياضها في صدى قلوبنا، هم من تعلم أن ابنائي سيلعبون مع أبناء ذو نشأة طيبة.
الصديق من رتّب الطلعة كتب جنب اسمي في قائمة الحاضرين قبلها بعدة أيام (أبو كنان – الدكتور النفسي لأي أحد يحتاج جلسة في الهواء الطلق)، إن كنت شخص غير عامل بالمجال النفسي ربما ستبتسم من هذا الوصف وهذا طبيعي، وإن كنت عامل بالمجال النفسي وشعرت بغصة في البطن أتفهّم هذا وهذا ربما يكون طبيعي، لكنني في حقيقة الأمر تبسمت عندما قرأتها على طبيعية الوصف من زوايا عديدة ليس هدف تدوينتي ذكرها.
هناك وبينما كان البعض يتناقش حل معضلة حدثت في ترتيب الشواء، قال أحدهم أننا نحتاج لعقل طبيب أو مهندس لحل المعضلة، عندها ذكرّهم أحدهم بأنّ لدينا في جلستنا طبيب .. هو الطبيب النفسي الذي إذا أحد عنده مشكلة نفسية عليه أن يجلس معه، قبلها لم أعرّف عن نفسي بأنني الطبيب النفسي أو أي شيء لمن لا يعرفني، فقط اسمي وكفى، وحدث الذي يحدث في أي بقعة أخرى .. حدث الذي جعلني أكتب هذه التدوينة .. حدث الذي بدون مبالغة لم أعايشه بهذا الصخب بسبب ما ذكرت من عدم اجتماعيتي الكبيرة ووضع بعثتي بالسويد وبسبب كورونا … الذي حدث أن احدهم الذي لم أقابله سابقاً: “أووه هو أنت الطبيب النفسي؟ والله الشباب يحتاجوك” طبعا قال الكلام والضحكات تتوالى والبعض يمازح ويقول “يا فلان تعال اجلس مع الدكتور تراك تحتاج”.
حسناً .. الغرض من هذه التدوينة ليس توعية أو نقد أو خلافه، لكن بكل شفافية الغرض من هذه التدوينة هو بالضبط عنوانها، ماذا ستفعل أيها الرفيق بالمجال النفسي لو كنت مكاني؟
دعوني أسرد بعض السرديات .. لو مثلاً كنت صارم الشخصية وقلت لهم أن هذا الأمر لا يستحق فيه المزاح، نعم من الممكن أن يكون موقف يُحسب للعامل له هذه الصرامة، لكن هل توعية هذه المجموعة الصغيرة بهذه الصرامة ستفعل شيء كبير؟ هل يكون لها موقف ربما في غالب الأمر عكسي؟ أليس من الفقه عن وضع الوصمة في مجالنا النفسي تجعل صرامة كهذه الصرامة هنا غير منطقية وغير مستوعبة لضخامة الوصمة؟ هل الصرامة هي بالفعل دفاع عن المجال النفسي أم دفاع عن ذواتنا التي ربما قد شعرت ببعض الاهتزاز؟
السردية الثانية .. لو مثلاً شاركتهم الضحكات واعطيتهم بدل المزحة مزحات أكثر وشاركتهم هذا الجو من “الوناسة” عن أي أمر في الطب النفسي، ربما هذا الطريق أسهل لكن هل هو بالفعل الأفضل؟ هل منطقي بأي مستوى من المستويات أن يكون عامل بالمجال النفسي يتضاحك على شيء يتعلق بمجاله؟ هل هذا التضاحك هو من أجل أن أكون أكثر قبولاً بينهم؟ هل هذا التضاحك من أجل أن لا أكون ومن خلفي مجالي النفسي هو مكان في نظرهم فقط لمن لديهم “نفسية”؟ هل هذا بالفعل منطق؟
السردية الثالثة .. لو مثلاً لم أُظهر أي تفاعل واخترت السكون واخترت القطيعة عنهم اعتراضاً على هذا الجو الذي من السهل جداً جداً أن يتكرر عدة مرات وفي عدة جلسات، هل بالفعل هذا تصرف منطقي؟ عن ماذا ننقطع وهذا هو العالم بجلّه حولنا؟
ماذا ستفعلون يا أصدقاء؟
أريد أن اسمع!
قبل أن اختم .. لابد أن أخبركم عن تصرفي حينها وإلا ما الفائدة من هذه التدوينة؟ 🙂
قمت بما أقوم به في كل مرة يحدث هذا التصرف، مع طبيعتي الغير اجتماعية فإن كل ما أقوم به هو أمر لا أزعم صحته لكنني أزعم أنني متعايش معه وله نواحي خفية، الذي أقوم به عادة أنني ابتسم، ابتسامة لا أعقّب فيها على الموقف الضاحك، ابتسم ولا أوعّي ولا أصعّد ولا أزيد الطين بلة بعرض نفسي بشكل مضحك لمن أراد من أجل النصيحة النفسية، هذه الابتسامة التي ربما فيها اصفرار بدون وجه مبتسم بشكل حقيقي فيها رسائل على الدوام تصل في تجاربي، الرسائل هي أنني ابتسمت وكنت لطيفاً لكن ليس لديّ أكثر من ذلك ولعلّ الموضوع ليس من أفضل مواضيعي التي أريد سماعها أو التضاحك حولها، وإن تطاول الأمر حينها أقول – والابتسامة الصفراء تصغر بعض الشيء – أنني أسعد بالاستشارة لكن لابد عن طريق العيادات، نعم هنالك دفاع عن ذاتي الشخصية بهذا التصرف ولا أنكر، لكن في حقيقة الأمر هذا التصرف حسب تجربتي يقصّر فترة التضاحك ويوصّل لمن حولي أنّ هذا الموضوع ربما ليس أفضل المواضيع التي نضحك عليها وهو بالفعل كذلك.
لن أكون ملائكياً لكنني في مرات نادرة قمت فيها بتصرف فيه صرامة عندما تحدث مثل هذه المواقف وأرى في صرامتي بعض الصحة .. على الأقل في حساباتي، عندما يكون هذا التضاحك في دائرة رسمية أو ملتقى أو من شخصيات طبية وأرادت تلطيف الجو بخفة دم عن هذا الموضوع، حينها الصرامة أراها فرض عين ولازمة وبأناقة، ليس دفاعاً عن الذات لكن المجال النفسي له هيبة لا نسكت عليها في الأصعدة الرسمية أو الطبية.
ختاماً .. هل هذه التدوينة هي تكبير لموضوع بسيط عابر؟
بدون مبالغة بالفعل ربما هو تكبير لموضوع عابر لكن الحضارات هي عظيمة بصغائر الأمور مثل هذا الأمر .. ومجالنا النفسي نظراً لضخامة وصمته فإن هذه النقاشات أراها لا بد منها.