
Vincent van Gogh, The Starry Night, 1889
تاريخياً وفي أحيان كثيرة كانت محاربة الأفكار هو الطريق المعبد لسرمديتها، عندما تصبح الأفكار تحت رحمة محاكم التفتيش الفكرية حينها هذا لا يؤدي إلا كما أدت الأمور إليه في الحقبة الأسبانية مع جماعات المسلمين هنالك بالقرن السادس عشر وكما حدث مع الماركسيين في الدول اللاتينية وتخليد تشي جيفارا معها وخلافها من قصص التاريخ، بدل من أن تحارب أمراً لتمحيه فحينها ربما سيظهر لك شيئاً أو رجلاً أو رمزية تجعل ما حاربته خالداً، وكذلك أرى الأمر مع المحاربة الكلية لوصمة الاضطرابات النفسية.
قسرية محاربة الوصمة بكليتها تكاد تفعل ما وصفه دانيل ويقنر في نظريته عن كبح فكرة الدب القطبي (٢)، دانيل أحضر مجموعة من الأشخاص وقسمهم إلى قسمين، قسم طلب منهم التفكير في الدب القطبي والقسم الآخر طلب منهم كبح التفكير بالدب، بعدها أحضر جرس للمشاركين وسيقومون بقرع الجرس في كل لحظة يتذكرون فيها الدب القطبي، ونعم كما تظنون، المجموعة الكابحة كانت الأكثر قرعاً لأجراسها، في ظني أن شدة محاربة الوصمة بشكل مبالغ فيه سيصنع ديمومتها، سيصنع شيئاً يشابه ما أسبغ فيه كارل يونغ بأن “ما تقاومه سيبقى”.
على ما يبدو علينا أن نقبل بوجود الوصمة قبولاً يشبه قبول الموت كجزء من هذا الأمر الذي نخوضه كلنا، علينا أن نقبل الوصمة كجزء من هذا المجال النفسي الذي نعيشه ونوعي الدنيا بوجوده وربما هو لقمة عيشنا بتقليل وصمته، علينا أن نرى التحيز والأحكام المسبقة والتنميط عن الاضطرابات النفسية وكل ما يتصل بها هو أمر يشابه لحد كبير قبولنا للتنوع البشري والتنوع في دواخلنا، حيث يوجد الاختلاف لابد من وجود الوصم، هذه حتمية فيزيائية لا تقبل القسمة على اثنين أو عشرة من حملات التوعية المضادة للوصمة، بل أرى أحياناً أن النزعة الدائمة لقمع الوصمة الغير قابلة للقمع هو كالصراع الذي لا نهاية له، وديمومة هذا الصراع بالذات يعني استدامة شكلنا المهزوم أمامه، سنبقى مهزومين في كل مرة طلبنا بشكل منطوق – وفي الأغلب غير منطوق – بعالم لطيف لا تكويه نار الوصمة، وهذا ذكره في سياق متوازي مع نيتشه حينما قال ” أفضل ما في النصر العظيم أنه يحرم المنتصر من خوف الهزيمة”.
أعتقد أن من فوائد التوقف عن النهم للإنهاء الكلي للوصمة وقبول بعضها هو فكرة كسر الجدار الذي يقول بشكل غير معلن بأنه يوجد نحن (كمرضى ومعالجين) وهم (كجمهور وصانعي قرار وخلافه)، هذه الثنائية أحياناً ستضمحلّ إذا قلّت لغة النزاع وقبلنا بعض الوجع في هذه الوصمة المتغلغلة في كل شيء حول مجالنا، كذلك من الجهة الأخرى يتهيئ لي أن توقفنا نحن كعاملين عن النداء بالإنهاء الكلي للوصمة كأنه توقف عن طلب القبول، كأنه سكون الشخص المائل في ارتباطه العاطفي للقلق، وما أجمل و ما أعذب سكون هذا الشخص حينها، كأن توقف طلب القبول من الآخرين يجعلنا في موقف من القوة يحتاجه مجالنا وخطابنا، عندما نتوقف عن المطالبات ذات النغمة المرتفعة حينها ننال مكانة الإقناع بالحوار الهادئ في حيثيات أخرى من ذات الوصمة بالخصوص أو المجال النفسي بالعموم، كأننا نتماهى حينها مع جنون ڤان جوخ، لوحته الأسطورية (ليلة النجوم) هي تكاد تكون العنوان الأبرز للقبول كل انفصال عن الواقع يحدث له، هذا جنوني وهذه ألواني وهذا عالمي المرصع بنجومه.
ختاماً؛ يبدو أن تحويل التركيز من إزالة الوصمة إلى منطقية القبول بوجودها قد يفتح قنوات لري أماكن تحتاج هذه الطاقات لأمور أخرى في مجالنا، هذا القبول المقنن سيضفي نوعاً من المرونة داخل المجال النفسي اتجاه أشياء كثيرة، الدعوة للتحول من محاربة الوصمة إلى التركيز على التقليل من الجزء الشخصي للوصمة المتعلق للمرضى في ذواتهم أو بالجزء الغير مرئي في السياسات والأنظمة، وكذلك الانتقال من محاربتها أحياناً إلى ركن قبولها كجزء من الرحلة،قبول الوصمة لا يعني الاستسلام لها، بل ربما فقط تجريدها من سلاحها.
1- van Gogh, Vincent. 1889. The Starry Night. Oil on canvas. The Museum of Modern Art, New York. Accessed October 26, 2023. https://www.moma.org/collection/works/79802.
2- Wegner, D. M., Schneider, D. J., Carter, S. R., & White, T. L. (1987). Paradoxical effects of thought suppression. Journal of Personality and Social Psychology, 53(1), 5–13. https://doi.org/10.1037/0022-3514.53.1.5