تدوينة موسعة عن فكرة ربط الإعتلالات النفسية بالأسباب العضوية و الأثر السلبي لذلك على الوصمة
هل مصطلح الـ (عَضْوَنَة) هو المصطلح الأصح؟
والله لا أعلم،،
هل هنالك مصطلح يحمل دلالة أفضل؟
كذلك لا أعلم،،
هل هنالك مراجع عربية تخصصت في هذه النقطة؟
مرة أخرى لا أعلم،، بل حتى الأجنبية وجدت أبحاث على عدد الأصابع و لعلي لم أجتهد في البحث،، أغلب ما ستقرأونه هنا هو تأملات رحلات في مترو و باصات ستوكهولم أو في السماء بين البلدان.
إذن بعد هذه الأجوبة و عدم الطمأنينة في الموضوع .. هل ما زلت مقتنعاً بما تتحدث عنه؟
هنا أقول نعم ،، الربط الصرف الكلّي بين الاعتلالات النفسية و الجانب العضوي من المرضى هو ربط في أغلبه يحمل أثراً سلبياً يزيد من وصمة المرض النفسي، و ال نعم هنا لا تعني الثقة العمياء لكن هي التراكمات عبر التأمل و البحث و زيارات العيادات.
ما هي الـ عَضْوَنَة ؟
العضونة في تعريفي الاصطلاحي هنا في هذه التدوينة هي الربط (المحض و الكلّي) في توعيتنا و تثقيفنا الصحي بأن الاعتلالات النفسية التي تصيب مرضانا هي بسبب اضطرابات عضوية (بحتة) تحدث في أجساد المرضى و عقولهم.
إذن هنا أتحدث عن الربط (الكلّي + في التثقيف)، لماذا وضعت هذه النقطتين بالذات بين قوسين؟
فعلت ذلك لإن الربط بين الاعتلالات النفسية و وجود خلل عضوي (ليس بالضرورة سببي) هذا أمر مفروغ منه بحثياً، لكنه كان و ما زال (أحد) التفسيرات لأسباب مجمل الاعتلالات النفسية (إن استثنينا ربما الهذيان و الخرف بشكل عام)، هذا الربط السببي البحت للأسباب العضوية هو منطلق تدوينتي، النقطة الثانية و هي نقطة في التثقيف لإنني مثلي كمثل غيري أرى هذا الطرح في حملات التوعية و فيديوهات التثقيف بتويتر و خلافها و لا أعلم عما يدور في العيادات، هذه العضونة المنتشرة في أوساط التثقيف هي متخمة و منتشرة في الأوساط الطبية خصوصاً و بدرجة أقل في الأوساط الطبية النفسية المتخصصة.
ما فائدة الــ عَضْوَنَة من ناحية وظيفية؟
حسناً .. في ظني هنالك ٤ أسباب تجعل العامل أو المثقِّف الصحي يلجأ لأسلوب عضونة الاعتلالات النفسية بشكل بحت، ٣ أسباب منها تتعلق بوصمة المرض النفسي و سبب أخير ربما علاقته ليست كبيرة بالوصمة:
١- الظاهرية في الوصمة:
ما هو ظاهرٌ للأعين من المظاهر فهو للوعي أوضح و الحكم عليه أسرع و ربما أقوى، لذلك كل المظاهر الواضحة سواء في الشكل أو اللبس أو التصرفات هي سهلة في ظهورها و أكثر وضوحاً لوصمها، ما هو خفي من الأمور هو كذلك أخفّ حدة في وصمه و هذا مربط الفرس، الحدّة تكون أخف و أعطف في وصم الأمور الخفية، العضونة أظن أن فيها محاولة لإزاحة الاعتلالات النفسية من أسبابها الظاهرية لتفسيرات خفية لا نراها، العضونة هي محاولة لإخفاء ما هو موصومٌ بظاهريته، هذا الدفن نعم يفك اختناق التواصل الاجتماعي للمريض مع الآخرين لكن ما زالت الوصمة كالفيل القابع في الغرفة و لا يريد العامل و المريض رؤيته.
٢- ضربٌ للتحكميّة:
هذه العضونة ربما من أهم وظائفها أنها ترسل رسالة مفادها أن المريض هو مريض ليس بسبب ما كسبت يداه لكنه مريض بسبب مجموعة من الناقلات العصبية أو ما شابهها، نحن نُعَضْوِن لإنّ المرض النفسي هو أمرٌ حدث للمريض الضحية بسبب بعض الجينات و خلافه، لذلك توفقوا عن وصمه و لومه، هو لم يتحكّم في هذه الأمور ليصبح مريضاً لكنها أشياء عضوية حدثت في جسده.
٣- إنسانية المشهد:
عضونة المرض النفسي تضيف للمشهد كله جانب عاطفي لذيذ، المريض هنا علينا أن نتعاطف معه لإنه ضحية شيء حدث في جسده، أنت أيها المثقّف الصحي أو العامل عندما تتحدث بأبجديات العضونة في تثقيفك فإننا بالأغلب كلنا سنحبك، كلنا نحن المرضى و ذوي المرضى و المجتمع، كلنا سنقترب منك بعاطفتنا شبراً و نقترب من المريض النفسي بعاطفتنا ذراعاً و الوصمة حينها وحدها من ستبتعد عن المشهد.
٤- تخفيفاً للضغط عن كواهلنا كعاملين:
نعم يا أعزاء و أنا أولكم هنا، العضونة هي المتكأ الذي نتكأ عليه عندما لا نملك الحيلة في علاج مرضانا، السبب العضوي للمرض النفسي هو العذر عندما تنتهي الحلول العلاجية من يدي، و هنا هذه العضونة لا تخدمنا فقط نحن كعاملينا و تغطي عن عثراتنا،، لكنها تغطي على عثرات النظام الصحي و أخطائه بأجمعه، أنت عندما لا تمتلك الحلول في يدك فأنت غالبا لا تملك حلولاً كذلك أخرى في عيادتك و نظامك الصحي و خدمات مجتمعك و هذا انعكاساً لتقصير النظام الذي دربك و ميزانية المرضى النفسيين و خلافه، هم كلهم ربما لم يخدموك مع مريضك الذي بالفعل فيه من الصعوبة الكثير في علاجه لذلك كان تبرير العضونة هو التبرير الأيسر و الذي يفك الاختناق، هذا المريض لن يتحسن بسبب شيء عضوي (بحت) يحدث في جسده.
و لا يخفى عليكم أنه بالفعل هذا العذر حقيقي و منطقي بل و حتمي مع حالات عديدة، التخوف هو أن تكون هذه العضونة حينها هي الحفرة التي ندفن رؤوسنا فيها عندما لا نملك حلولاً أو لسنا متمكنين كلنا بدرجة جيدة كنظام صحي و ليس فقط أشخاص لكي نجد الحلول له.
ما هي إشكالية الــ عَضْوَنَة؟
هي كثيرة ،، من كثرتها لا أعلم بأيهم أبدأ لكي تكون الأكثر أهمية في نظركم ..
١- كائنات مختلفة + نبذ إجتماعي للمرضى والأقارب + إهمال فرضية التعافي من المرض العضوي
أحد الدراسات وجدت أن هذا التوجه من العضونة في التوعية عن الأمراض النفسية تجعل المتلقي نعم يتحسن في عدم لوم المرضى لكن الأغلبية بعد هذه التوعية أصبحوا يظنون أن هؤلاء المرضى هم بشر من درجة أقل و الأدهى هو تعمّق فكرة عدم التحسن العلاجي بسبب هذه العضونة و التي كانت ربما هدف الحملة التثقيفية دحض هذه الفكرة، بل أن نتائج هذه العضونة للأمراض النفسية على الأمد البعيد المزيد من التصرفات الصارمة مع المرضى و الصورة النمطية عنهم، في حقيقة الأمر هذه العضونة تجعل المتلقي لطيفاً ربما في لومه و السطح من تصرفاته يبدو متعاطفاً لكن في قرارة نفسه ما زالت الوصمة ثابتة عن ذات المريض لذلك يكون المتلقي حينها في حالة من الصراع الداخلي في ذاته عندما يكون بالقرب من المرضى و يظهر ذلك في تصرفاته الغريبة حينها، أحد الدراسات التي شملت 3 دول وجدت أن المسافة الاجتماعية بين المرضى و ذويهم من جهة و المجتمع من حولهم من جهة أخرى تزيد و تصعب في حالة تعميق هذه الصورة البيولوجية العضوية للمرض النفسي بالمجتمع.
٢- مصيبة تهميش ما غيرها من الأسباب
أحد كبرى مصائب الطرح البحت لعضونة الاعتلالات النفسية يكمن في هذا السيناريو التالي: مريضـ/ـة يتعرض لتكالب مصائب الدنيا حوله كعوامل الفقر أو البطالة أو التنمر أو الظلم أو الطفولة القاسية أو التحرش أو عدم الدعم المجتمعي أو … الخ، العضونة البحتة تقلل من قيمة و أهمية أحد هذه العوامل الخطيرة و التي تعتبر عوامل خطر بديهية حدثت للمريض مما جعلته معرضاً لاضطراب نفسي، المغتصب و المتنمر والمتحرش الذي قد يكون من ذوي المريض سوف يتعلل بخلل دماغ هذا المريض و اضطراب جسمه، كيف لا و الدليل حديث ذلك الدكتور و تلك الأخصائية عن الأسباب العضوية للاعتلالات النفسية، و النتيجة استمرارية هذه العوامل الخطرة بيئياً حول الشخص بدون اعطائها حق الاهتمام من دحرها أو محاربتها و خلافه، و هنا نقطة غاية في الأهمية و هي أن هذا التهميش ليس فقط على مستوى الأسرة الصغيرة بأفرادها لكنه يحدث على مستوى منظمات صحية و ميزانيات وزارية و توجهات دول و حكومات و خطط تنموية، والله لا أبالغ في نقطتي السابقة، نظرتنا للمريض النفسي أنه مريض مصاب بمرض عضوي قد يستحيل تحسنه هذا يجعلنا لا نلتفت لتحسين الخدمات لهم و لا تحسين فرص حياة البشر في مجتمعاتهم و لا فرض أنظمة قاسية على المتحرشين و المتنمرين و هلم جرة، هنا الحديث يطول لكن النبيه بالإشارة يفطن عن ضخامة معطيات هذه المصيبة و سلبياتها.
٣- اختناق المساحة الطبيعية من تقلبات البشر!
هنا نقطة عميقة بعض الشيء و عليكم التركيز معي قليلاً، هذا الطرح المليء بالعضونة هو طرح بشكل غير مباشر يقلل من تلك المساحة الفسيحة من الطبيعيات في أفكار و مشاعر البشر، تلك المساحة التي نقع فيها جميعنا صعوداً و هبوطاً في احوالنا الطبيعية، فرضية أن الاعتلال النفسي هكذا بالمجمل جذوره هي جذور عضوية بحتة هذا قد يعني في ذهنية الآخرين أن أي علامة مرضية من علامات التشخيص التي نستخدمها في مراجعنا لها بالضرورة لوحدها أصل عضوي اعتلالي في عقل هذا الشخص أو جسده، على سبيل المثال لنقل أن هنالك شخص لم يمارس هواياته المعتادة لعدة أيام، حينها قد يظن أحدهم أنه مصاب بالإكتئاب بالرغم من أنه ليس في مزاج مكتئب لكنه ببساطة يمر بمرحلة طبيعية في حياته من انخفاض اهتمامه بهذه الأمور، من هذا المنطلق العَضْوَني لابد أن هذا الشخص لديه خلل نفسي عضوي وهذا الخلل العضوي قد أصاب هذا المريض بالإكتئاب ولو لم تظهر كل أعراضه الظاهرية، هذا الطرح قد يبدوا ساذجاً لنا نحن العاملين لكن في عقول العامة بديهي و لا يحتاج جهداً للتفكير به، هذه العضونة تعمّق نظرة الناس على أن هذا التفاوت اليومي في نفسياتنا وأفكارنا وسلوكنا له ربما أصول عضوية مرضية وحتى لو عاد المرء لطبيعته المعتادة.
هذه النقطة ربما قد تفتح باب آخر إلى سؤال أكبر و هو: ما هو الطبيعي من أحوالنا النفسية و وظائفنا الذهنية؟ هذا سؤال ضخم تناولته مراجع و له لذته.
٤- تسطيح للإنسان و كينونته!
هذه النقطة ربما من ناحية الأهمية هي ليست الأولى في نقطة الوصمة لكنها لي شخصياً هي ربما الأكثر استفزازاً، في اعتقادي أن هذه العضونة البحتة هي تسطّح معاناة الإنسان و حياته بشكل فيه سذاجة بئيسة، هذا الكائن بكل تراكماته و ثواني حياته منذ وجوده حتى في بطن أمه مروراً بلحظاته الأولى في حياته و طفولته و مراهقته و شبابه و تقلّبات الحياة فيه إلى أن حضر إلى عيادتك هي أمور اختصارها و تعليلها الوحيد هي مجموعة من النواقل العصبية و شوية ريسبتورز .. مضحكة هذه الفكرة إلى حد الألم، بل حتى أن كتاب التشخصيات النفسية من منظمة الطب النفسي الأمريكية يكتب بوضوح فيما معناه أن هذه المعايير التشخيصية الموجودة بالكتاب هي أداة لجعل تواصلنا الطبي و لغتنا مشتركة لكن إشتراك عدة مرضى في تشخيص واحد هذا لا يعني بالضرورة أنهم يشتركون في ذات الأسباب لمرضهم (و الأسباب العضوية بالطبع إحداها) و لا حتى سيستجيبون لنفس العلاج، هذه العضونة الصرفة تجعلنا كأننا أحد شركات هذه الأدوية التي لا شك أنها من اكثر المنافحين عن عضونة الأمراض النفسية، أصبح المريض كمجموعة أعراض علينا جمعها كما نجمع أعراض تشخيص أي مرض عضوي آخر بدون النظر لما وراء هذه الأعراض و ما وراء هذا المريض في ماضيه.
٥- نعطي المريض عذراً على فشل محاولاته
ختاماً .. في ظني أن طرح العضونة في أدبيات توعيتنا و تثقيفنا عن المرض النفسي هو طرح يعطي بعض المرضى عذراً عن المحاولة في تحسين ظروف حياتهم و أفكارهم، شائع لدى الكثير منّا كعاملين بالمجال وجود هؤلاء المرضى الذي يبررون مرضهم العضوي النفسي و هو من سبّب فرضاً عدم عملهم للواجب العيادي أو أخذهم للدواء أو اتباعهم للنصائح و هكذا، تجدهم يقولون لك المشكلة هنا في الرأس كما تقولون و لن تتحسن و تستمر بالفعل هذه الإشكالية، و هذه نقطة بالفعل حقيقية مع البعض القليل جداً لكنها ليست عذراً للكل و لا شك.