الدواعي ضخمة لنا نحن العاملين بالمجال النفسي للحديث عن أي موضوع فيه ملمح نفسي، هذه الدواعي تكبر إن كانت هذه المواضيع بالفعل أزموية في محيطنا فحينها الحَميّةُ للحديث عنه والخيريّة فينا تصنع مبررات منطقية لنا للحديث عن هذه المواضيع، وكذلك لو حاط حديثنا عنها لمعة الجلوس خلف المايك أو لمعة الانتشار والتسويق فحينها لا نقاش أننا أقرب للخوض في هذه المواضيع.
هذا الخوض في هذه المواضيع مطلب مهم ويحتاجه المجتمع وفينا من فينا من المكانة والمنطِقِ والمنطَقْ للتصدّر بالحديث عنها، إلى هنا كل الأمور تبدو جيدة ومفهومة، سبب كتابتي لهذه التدوينة هي أزمة تصدّرنا نحن العاملين بالمجال النفسي للحديث حرفياً في كل أمر فيه ملمح إنساني نفسي لكنه بالكلية لا يلامس تخصصنا النفسي الصحي أو حتى التخصص الدقيق أو اهتمامات من يتحدث عنها، أصبحنا نحن أهل الطب النفسي بالذات من يُحضره الإعلام أو يظن أن الجموع تنتظره لكي يدير هاتفه النقال للحديث أو التعليق في كل أمر فيه تفاعل إنساني مختلف أو مضطرب، نحن الذين نفهم في كل غريب ومختلف وغير مألوف وليس بالضرورة في تخصصاتنا، نحن من نفهم الأشياء الغريبة والأشياء الغريبة نحن أهلها، نحن الذين نملك إجابة كافية وافية لأي مظهر اجتماعي فيه شيء من الغرابة أو الاضطراب.
أولاً .. لا شك إطلاقاً أن حق الحديث للكل كما أن حق النقد على الكل، للكل الحق أن يتحدث خلف المايك أو أمام الكاميرات عن أي أمر يريده، الجمهور عطش للمتخصصين والمطّلعين للاستماع منهم أو القراءة لهم ولو كانوا غير أكاديميين في اهتماماتهم، الفضاء متسع للكل والنقد هنا ليس عن مجرد الحديث لكن كذلك عن منطلقاته.
لست متحجراً لكي أطالب كل من يتحدث بشهادة أو تدريب تثبت علمه فيما يتحدث عنه، فالمعرفة واسعة ولا تؤكدها شهادة ولا تنفيها عدم وجودها لكن ليس من المعقول أن يتحدث أحدنا كإلقاء تخصصي ومرجعي في (عدة) أمور متباعدة غير متشابكة إلا بأن (الإنسان) هو الرابط بينها.
المصيبة الكبرى -وهي لبّ حديثي هنا- عندما يكون تخصّصنا النفسي الصحي هو من أعطانا حق الحديث عن هذا وذاك من المواضيع المتباعدة، هنا المشكلة ليست في ضياع الطرائق التخصصية وتقديسها ولا في بعثرة المعرفة المنقولة؛ لكنها كذلك في مجهودات هذا المتحدث الثمينة التي لم ينالها سياقات معرفية محددة.
هذا التخصص يزرع فينا وهم المعرفة التامة بالطبائع الإنسانية، تخصصنا يعطينا حق خادع غير شرعي بأن علمنا ببعض المظاهر المرضية للإنسان يجعلنا حكماء في كل شيء مختلف فيه أو حتى في الأفضل له، هذا الوهم المعرفي مخيف وفي مجتمعات تقدّس المراجع التي تعرف كل شيء فإن المأزق الأكبر لنا للوقوع في هذا الوهم.
نحن يا أصدقاء المجال عندما نمارس هذه البعثرة المعرفية ونمرّره هكذا بدون تنبيه أو عتاب فهذا مما قد يسيء لمجالنا الذي نعمل فيه، هذا الامتطاء على ظهر التخصص للتحدث فيما لا نجيده له تأثيرات سلبية على المجال والوصمة، أحد أزماتي الكبرى في هذا المظهر كذلك هو الفكرة النمطية التي تتكوّن عنّا نحن العاملين بالمجال بأننا عن أي شيء وفي كل شيء لنا رأي نتصدّر به، هذا التصدّر المتكرر يجعل محتواه بالياً ويجعلنا في الفكر الجمعي للمجتمع بأننا لسنا من أهل المعرفة الإنسانية التي تتطلب التمحيص والمراجعة والمراجع في كل باب دقيقٍ منها، كل مافي أمر أن تحمل شهادة نفسية صحيّة ومن بعدها شرّق وغرّب في اطروحاتك، ألا تلاحظون ضرر أن يجلبون أحد من العاملين في مجالنا دوماً للحديث عن كل سلبية في المجتمع ومختلف غريب؟ وكأننا نحن الطائفة من البشر الغريبة التي تفهم لوحدها أي شيء غريب لا يفهمه الآخرون، وتحدث المتخصص النفسي الصحي عنه يعني أنه جانب فيه اعتلال نفسي وبذلك تتضخم نمطية أن كل مختلف هو ربما مرض نفسي بسبب اختلافه.
في ذات الوقت لإن مجالنا النفسي ينال كل طائلة فهذه حجتهم في الخروج وهي كذلك عذرهم في مرافعتهم، لكن أتعلم ماذا؟ هذا يا صديقي النزوع الإنساني الفسيح في مجالنا يجعلنا أكثر احتياطاً وحرصاً في أن لا نقع في فخ هذا التباعد والبعثرة المعرفية بالتحدث عن كل شيء يحدث حولنا، هذا البحر النفسي البديع المترامي في معرفته وأطروحاته في مجالنا يجعلنا أكثر تقييداً في حصر جهود العاملين كمجموعات في زوايا ضيقة من هذا البحر لكي نكون أكثر ميلاً للتخصّصية وتقنين الجهود البحثية وتأطير ما يكن تأطيره في البحث والتمعن من ثم التصدّر للحديث عنه فيما بعد.
الخوض في كل أمر والتصدّر للحديث عن كل طارئ وشائك إنساني هو امتدادٌ لسياق مفاده أنّه بالفعل من كل هذا وذاك يحضر مريض إلى عيادتنا بسببه بشكل مباشر أو حتى غير مباشر، لكن العلاقة هنا بين ما السبب الذي جعل مريضنا يحضر للعيادة من جهة وما هي وظيفتنا العيادية في مساعدة المريض من جهة أخرى لا تجعلنا بالضرورة خبراء ومتحدثيّن ومراجع معرفية يُستأنس برأيها في الحديث عن هذه الأسباب التي جعلت مرضانا يحضرون للعيادة، من يجرأ في الحديث عن كل شيء في مساحات كبيرة خلف المايكات وأمام الكاميرات فإن الداعي للتشريق والتغريب في هذه المواضيع أكبر في عياداتنا الصغيرة.
لا ألوم العامة ولا القائمين على أي منصة تفاعلية، فالأمر أحياناً لا يتجاوز أن يكون فراغ يحتاج إلى أن يمتلئ بأي شخص يتحدث، لا ألومهم وألوم وعي مجالنا وأجوائه، للمجال النفسي الصحي قدسيّته التي يجعل أي مظهر قد يدنّس من مجالنا هو مظهر لابد من مراجعته ونقده والحديث عنه وبحثه وتلقين اليانعين في المجال بمساوئه وان احتاج الأمر تقليم أظافره بالقوانين أو بنقده علناً، والأمثلة كثيرة في عدة دول قامت بتقنين ظهور العاملين الصحيين على وسائل الإعلام والمواقع لتهذيب ما يمكن تهذيبه، هنا وهنا وهنا أمثلة على ما ذكرت ولم أبذل جهداً كبيراً بالبحث عن غيرها.