كل عمل هو حامل وفيه تعبير عن معتقدات ومفاهيم محملة بالنظريات إلى حد ما؛ كل جزء من التنظير وكل تعبير عن الاعتقاد هو عمل أخلاقي
من الأمور التي لمحت تكرارها بشكل مباشر أو غير مباشر هي نغمة أنّ المعالج يجب أن يكون محايداً وغير حاكماً على أفكار وتصرفات مريضه، على المعالج أن يضع آرائه الشخصية خارج غرفة العلاج النفسي، في حقيقة الأمر أظن أنّ الشيء الذي عليه أن يخرج خارج الغرفة وخارج عقل المعالج والمجال برمته هي هذا الفكرة من الحياد الملائكي المطلق، أعتقد أنّ الموقف الحيادي في الغرفة العلاجية هو موقف أشبه ما يكون موقفاً سياسياً ديكارتياً مقدساً للعقل بشكلٍ يجلب الغثيان ولا يمُت للموقف الإنساني الذي يدل على أصالة المعالج، ومن هنا تأتي بعض المواقف الجدلية كسؤال كرينشو حين قال فيما معناه ” أنّ العلاج الذي يدعّي عدم حكمه على المستفيدين منه يمكن أن يؤدي إلى قبول السلوك غير الأخلاقي لدى المرضى، على سبيل المثال، الموقف غير الحُكمي للإنسانيين أثّر بشكل كبير على تقاليد العلاج النفسي المحايد للقيمة” (١)، بل أنّه من الأطروحات التي أجد نفسي معَهَا هي فكرة أنّ المعالجين الداعمين بشكل خالي تماماً من الاتجاه الحُكمي الانتقادي للبوصلة الأخلاقية هم معالجين قد تكون مدخلاتهم ضارة (٢) وربما أكثر من الجيد منها، مع الاتفاق على أنّ التوجه الإنساني خلف هذه المنطلقات من الحيادية تعزز الرعاية للمريض وقبوله إلا أنها تواجه الكثير من المعضلات في الخوف من مواجهة المخاوف الأخلاقية.
غالباًما تكون المحادثات بين المعالج والمريض مشبعة بالتأمّل الأخلاقي مما يجعل عيادة العلاج النفسي مختبرا أخلاقيا مثالياً، كثيرا ما يتعامل العلاج النفسي مع السلوك الصحيح والخاطئ، واتخاذ الخيارات، وإيجاد السعادة وخلافه وهذه أمور يأطرها ويخترقها المعادلات القيمية الأخلاقية بالضرورة، ولإنّ المثال الأخلاقي لابد أن يتجلّى ويظهر حينها من المنطق أن يكون النموذج الأخلاقي المثالي داخل الغرفة العلاجية يذهب لصاحب القوة الأكبر ألا وهو المعالج.
غرفةالعلاج النفسي هي ليست غرفة علاجية إنسانية بأسس علمية ممنطقة ومدروسة وفقط، هي كذلك غرفة فيها ضعف وفيها قوى مرئية وغير مرئية لأحد الطرفين وفيها كذلك اطلاق وتوجيه أحكام أخلاقية وإنسانية اتجاه أطراف قريبة من المريض أو حتى اطلاق أحكام اتجاه المريض ذاته، هذا الاختلاف الحتمي في القوى بين طرفي العيادة يكون في غاية الوضوح في مسمى المعالج وشهادته المعلقة خلفه وأنّه على أرضه وبين جمهوره (وأقصد هنا الفريق العيادي ^ـ^)، لكنه كذلك يظهر في أمور في غاية الوضوح والخفاء معاً، القوى بشكل ناعم كما تم وصفها في أحد المراجع (٣) قد تظهر في طريقة تنظيم المعالج لغرفته وتأثيثها ووجود المنديل بقربه وكتابته للنوتة حين جلوسه مع مريضه، كذلك تظهر في لبسه المهني أو الاحترافي أو في كونه من يطرح الأسئلة وكاريزمته وقوة شخصيته ولتاج الصحة الغير مرئي فوق رأسه، بل وحتى ميزان القوى يذهب – وهنا حجر الزاوية في تدوينتي – في أنّ المعالج هو من يملك التحكم والقوة في توزيع الجوانب الأخلاقية في إيجاد المخطئ ومن يستحق المدح والحب وتوجيه المريض – ولو ضمنياً بدون تدخل – للتغيير والتركيز على من يستحق أن يكون من ضمن علاقاته ومن هو على صحة أو على خطأ ومن ضمنهم المريض ذاته.
عدمالتوازن في القوى وسط الجدران الأربعة لعياداتنا هي مساحة خصبة للمعالج لتوزيع أحكامه الأخلاقية والقيمية، فيزياء العملية العلاجية داخل العيادة بين شخص يملك السيطرة وأخر لا يملكها -وهو المريض- بل ربما في أضعف حالاته هو أمر يستلزم وجود من يملك القوة الأخلاقية القيميّة وأخر يمتلك جزء أقل منها، وتعتمد درجة القوة الناعمة التي يمكن للمعالج أن يمارسها على مدى وداعة العميل، وضعفه، وهشاشته، واعتماده على الآخرين (٤)
لنتخيل سوية السياق التالي (السياق التالي هو سياق خيالي ولكم القياس عليه):
المريض يعاني مثلاً من الحكم القاسي نسبياً من أحد والديه أو لا يتفق تماماً مع فكرة الزواج أو الإنجاب في نظره الشخصي من منظوره القيمي للأمور، المعالج حينها يقوم بالرد العلمي – في ظنّه طبعاً – بأنه من الطبيعي أن تقف أمام والدك أو والدتك بالشكل الحازم أو أن يقوم المعالج بالرد أن فكرة الزواج والإنجاب هي فكرة فطرية ورأي المريض ليس صحيحاً.
في هذا السياق بالفعل قد يكون رد المعالج ليس بالضرورة خاطئاً ولا رأي المريض في مطلقه صحيح، أنا هنا لا أنتقد المعالج تماماً لكن هنا أتحدث وأضع أفكاري على الطاولة للتفكير في عدم توازن القوى بين المعالج والمريض والذي يعطي صلاحية علمية مطلقة لما يقوله المعالج بدون تمحيص أو بدون تعمّق في فهم ما يعيشه المريض ناهيك عن الانحياز الأخلاقي القيمي الذي حدث منه اتجاه مريضه والذي أعيد وأكرر ليس في مطلقه خاطئ، الخطأ حينها كل الخطأ هو أن تحدث كل هذه الانحيازات القيمية والأخلاقية في مساحة غير متوازنة القوى بين شخصين مع ظن خيالي أننا لا نحكم على مرضانا بأحكامنا بل نعالجهم بطرق علمية وكذلك مع طعن في قيم مرضانا بدون شفافية مع مرضانا خلال العملية العلاجية حول أنّنا كمعالجين نتحدث كثيراً من منطلقاتنا الأخلاقية الخاصة فينا، هذه السلطة في الطعن القيمي باستخدامه لقوته داخل الغرفة بدون علم شفاف عن حدوثه مع مريضه هو ما أراه يتكرر عندما يحدثني البعض عن تجاربهم العلاجية مع معالجيهم، أسمع قصص قد تصل لدرجة الأذى للمرضى وربما يصل لدرجة تعسفيّة خطرة اتجاه المرضى وهم في أضعف حالاتهم.
أناهنا لا أجرّم هذه الفيزياء الحتمية في الأغلب، أنا هنا أفكر ولعلي أنقد عدم الوعي بها والأهم أحذر من جعلها الشرعية العلمية لطريقتنا العلاجية المبنية على الأفضلية الأخلاقية التي لا نعي بها متغاضين عن تسلسلية حدوثها، بل لا أبالغ عندما أقول أنّ العلم والوعي بهذه الفيزياء الحتمية بعدم توازن القوى في التقييم الأخلاقي والقيمي مع مرضانا قد يكون لها أثر علاجي مذهل لو كان هنالك حكمة في مدى استخدامها والوعي بحدوثها طبعاً في العملية العلاجية.