أنا رجل في الثلاثينيات من العمر، ربيع العمر يتناولني و لا أدري إلى متى و أنا سأتناول من العمر، في أغسطس الماضي أتممت ستة أعوام من هذا العمر في صقلية الدول الإسكندنافية ستوكهولم عاصمة السويد، ستوكهولم هي بلدٌ -أقولها و التعصب الأعمى يطالني – لو هاجر منها الشخص لغيرها من بلاد الدنيا فالافتقاد لها مصيره لا محالة، هي هكذا كانت بديعة و لعله هذا سبب بؤس كل من فارقها، لكن لا تحذروا كثيراً فالحياد في سطوري القادمة أبتغيه و لو كانت بشريّتي مانعة من أن أصل إلى قمة الحياد.
هنا في هذه التدوينة سأكتب هنا تجربتي الشخصية في مرحلة بعد الابتعاث عندما عدت هنا للوطن، سأكتب عن تغيراتي و زلّاتي و تحيزاتي النفسية و الفكرية التي حدثت من لحظة نزول قدامي لأرض المطار بجدة إلى تاريخ نشر هذه التدوينة، لكنني حاولت أن تكون القراءة هنا عامة لنا نحن معاشر العائدين من الابتعاث، لماذا نحن هكذا في أغلبنا ربما متحمسون أو ساخطون أو متكيّفون أو نالنا الاستسلام.
إذن هي محاولة للخروج بقراءة عامة لمن عادوا بعد مرحلة الابتعاث، هي محاولة تعميم و التعميم كعملية فكرية يراها البولندي النفساني جوزيف جاسترو عملية فكرية بالغة في الصعوبة و ليس كما نظن تهمة سهل الرمي بها، أن تخرج بمحاولة لاستنباط متشابهات من تفاصيل كثيرة هي عملية مجهدة أكثر من التعمّق في جزئية صغيرة واحدة، التعميم لم يكن خطأً فكرياً لكن اساءة التعميم هي الإشكالية في الأغلب.
دعونا نبدأ مع النقاط التي كتبتها و قاتلت سطورها حتى اجعلها أكثر اختصاراً..
مؤمن أن جزء من تعاريف وطن الإنسان هو المكان الذي تقع فيه كنبته و ربما مكتبته، هو الاستقرار و وجود الروتين المنتج، لذلك تناقل الكنبة هو ربما تناقل لجزء من الوطن في داخل الإنسان و بشكل أوضح هو تزعزع لإستقراره و سكينة روتينه، هذا التناقل بلا أدنى شك هو عبارة عن فترة مليئة بالضغوط ليست فقط على المبتعث بل على أسرته و أطفاله و في حالتي كانت هذه النقطة في صميم أزماتي الحالية، هل تعلم أن الانتقال من شقتك لشقة أخرى هو أحد عوامل الخطورة للإكتئاب لعدة أفراد بالأسرة، لذلك الإنتقال من بلد لبلد ليس بالضرورة متعة سياحية بل هي على المبتعث مرحلة فيها امتحان و أزمات مخيفة، لذلك أفكار و مشاعر المبتعث عند رجوعه ليست في أفضل أحوال استقرارها و أنا هنا أشرح بشكل أكبر و أبرّر كذلك بشكل غير مباشر.
محنة الإدراك!
حسناً هنا سأكتب عن أهم أجوبة سؤال تدوينتي في هذه الجزئية، أمارتيا سن الفائز بجائزة نوبل للإقتصاد في كتابه المشهور بفكرة العدالة كتب في مقدمته ربما اللب من كل صفحات كتابه المتجاوزة لخمسمائة صفحة، حيث قال الناس التي تتحرك لتغيير واقع لا يدفعها لذلك فكرة رغبة الوصول للكمال المطلق(و لو كان لديهم تصوّر لهذا الكمال)، لكن ما يدفعهم و دفع العظماء بالتاريخ لتحسين الأمور هو علمهم و إدراكهم بإمكانية رفع الأمور و تحسينها، الإداراك بالإمكانية هي كلمة السر هنا في ظن أمارتيا، نحن نتحدث عن شريحة المبتعثين التي هي فقط لا تدرك ذلك و لكنها عاشته في يومها و تعاطت معها بل كانت جزء من واقع من الأمور التي ربما وصلت في نظرهم للكمال المطلق، لذلك كلامهم و رغبتهم في الزوبعة لكل مكان يذهبوا إليه هو أمرٌ عائدٌ لإنهم على إداراك و خبرات سابقة بوجود (الإمكانيّة) للتحسن، فكيف إذا اندمج هذا الإدراك مع الحب لهذا الوطن و ترابه و أهله، حينها الأزمة تصبح أوضح و أكثر نزعة للقيام بشيء.
على سبيل المثال في كل مرة أرمي علب بلاستيكية أو كراتين خشبية أو ورقية أو زجاجية في سلة المهملات والله ينالني القهر على ذلك لإنني حرفياً في الستة سنوات من حياتي الأخيرة كنت يومياً أقوم بذاتي بترتيب هذه النفايات لإعادة تدويرها، الألم هنا أن الأمر كان بسيطاً و (أدرك) و متيّقنٌ أنني قادر على ذلك و المعطيات بمجتمعي قادرة على إنشاء ذلك لكن لا أستطيع فعل ذلك فأجدني أحرص بخصامٍ أحياناً على التقليل من الأكياس البلاستيكية في كل مرة أتبضع و هكذا (و مثالي هنا مبسّط و إلّا أزمة الإدراك تحدث في مستويات كبرى)، أن يحصل انكسار لهذا الإدراك في داخل العائد من الابتعاث هو أمرٌ في غاية السواد لحماسه و ذات كينونته و رغبته في التحسين، بل من المهم محاربة حدوثه و احياء هذا الإدراك بالتحسّن لإنه هذا هو أساس حياتنا بأننا نعمل و نعمّر هذه الأرض رغبة في تحسينها.
حساسية الحضارات و الحنين للماضي
أن تعيش في مجتمع تدرّج منذ زمن في سلّم الحضارة فإنك ترى في معظم أطيافه حساسية مرتفعة نحو الملامح الدون أو الغير جيدة أو الغير مقبولة من قيم هذه الحضارات (قلت المعظم من أطيافه و ليس الكل)، أن تعايش في يومك جزئيات متراكمة من المشاهد الجيدة من مجتمع اعتنقها منذ عقود و يربي عليها ابنائه فإنك ستعاني في مجتمعات أخرى ما زالت تكافح في تأسيس ما دونها من هذه القيم و قد يقتات بعضها على الدون منها، هذه الانتقاليّة بين المجتمعات ليس من السهل بتاتاً تجاهل مفعولها على العائدون من ابتعاثهم، له إيجابياته بالفعل لكننا كلنا سنعاني في انتقاليته و معاناة بعضنا بارك الله عليه بأن جعلها انتاجاً للتحسين، و اشكالية بعض من أراد التحسين ظنّه بأنه بما اعتنقه و رآه هنالك في بلد ابتعاثه سيغير المحيط حوله هنا كله بها و يريد من الكل أن يحذو حذوه متناسياً كمية التعقيد الأنثروبولوجي في فكرة نشأة حضارة جيدة و الاختلافات بين الحضارات.
التأرجح بين التعلية و الإزاحة!
التعلية و الإزاحة هما آليات دفاعية نفسية ننحاز لها بشكل غير مَوْعِي و أظن أن فترة ما بعد الابتعاث مكتظة بهما، التعلية هي أن تترجم دوافعك الغير مقبولة اجتماعياً (كالغضب على الآخرين أو العدوانية بطيفها الكبير) إلى مشاهد إيجابية أو مقبولة، الإزاحة في الضفة الأخرى هي محاولة دفع القلق فينا و الغضب الذي يتنامى بسبب جهة أو جهات أخرى أقوى من سيطرتنا و توجيه هذا الغضب و القهر اتجاه جهات أخرى أضعف و تحت سيطرتنا، إذن هنا التعلية بشكلها اللطيف و الإزاحة بشكلها المقلق، هل نحن معشر العائدين من الخارج نتناقل بوفرة بين هذين الدفاعات النفسية؟ أظن ذلك على الأقل في نفسي، هل نحن نتمادى في أحدهما؟ أتمنى ذلك في اتجاه التعلية لا في اتجاه الإزاحة و ذلك أمر ليس بالسهولة، لعل أوضح الأمثلة أمامي عندما كنت في ستوكهولم فلقد كانت قيادة السيارة عملية سلسلة تلقائية لا يحتاج فيها غضبك للثوران، لكن في مجتمعات أخرى كمجتمعنا هي عملية مجهدة للمشاعر و مقلقة بدرجة دورية، السويد طيلة سنواتي الستة شاهدت ربما فقط ٤ حوادث، هنا خلال شهر واحد شاهدت سبعة، أنا أصبح إنساناً آخراً خلف المقود هنا و أطفالي خلفي في كراسيهم يشاهدون غضبي و هذا أكثر قسوة، هذا الغضب اليومي الدوري كيف لا يؤثّر فينا أو على الأقل فيني بعد هذه السنوات الستة؟ أصبحت أكثر حدة في لغتي مع صغاري، أنا مع زوجتي أجاهد لأحافظ على ليونة منطقي و حرفي، مثال السيارات يتناهى في الصغر لو قارنّاه بأمثلة القهر من البروقراطية و التعقيدات و عدم الإتقان و الظلم و السكوت عن الخطأ و خلافه من الأمور التي تغدي مشاعرك السلبية، هذا الكم يبدوا أحياناً من الإستحالة على الأنا فيني أن تحوله بمجمله إلى (تعلية) في توجيهها، هي الإزاحة تطغى و للأسف و لعلي هنا أيضاً أبرر لنفسي أخطائي بطريقة غير مَوْعِيّة، هذا التأرجح نتمايل فيه شئنا أم أبينا كلنا لكن بعد العودة من البعثة المسألة في قمة عنفوانها و تجلّيها أو بالأصح ظهورها على ألسنتنا و تصرفاتنا.
عندما لا تكون الجودة في الأداء سبباً للضغوطات الجديدة!
حسنا سأجاهد هنا نفسي كي أكون محايداً و الجهاد في هذه النقطة صعب، في هذه الثلاثة شهور ازدادت لدي قناعة ربما بسيطة في مظهرها لكنها معقدة التركيب، قناعتي ببساطة أن الخصام في بيتي و بيتك هو نعم أثره المباشر على ذات البيت لكنه يحمل أثراً غير مباشر على بيوتنا جميعاً و بيوت المجتمع جلّه، الخصام الذي حدث في غالب الأمر هو ربما بسبب ضغوط حياتية أو مالية أو تقصير مكونات في المجتمع عن أداء دورها أو خلافه، هو ربما تقصير مني كطبيب في نسياني لصرف الدواء لك أو عدم وجودي بعيادتي و هذا قلب يومك و زاده قلقاً و هذا بطبيعة الحال أثّر على بيتك و بالتأكيد أثّر عليك في مكان عملك و ربما لو كانت زوجتي تحتاج لإنهاء أوراقها من مكان عملك فإنك سوف لن تكون في أحسن أيامك و لن تؤدي عملك كما ينبغي و هكذا، نحن مرتبطون في همومنا كإرتباطنا في جنسنا البشري، لذلك جودة الحياة في زاوية تعني رفعها في زوايا أخرى ليست بالضرورة مرتبطة بها.
حسنا لماذا هذه المقدمة؟
في ستوكهولم تنقلّت من شقتي ربما خمسة مرات و في كل مرة اتبضع من تلك الشركة المخصصة للأثاث التي تعرفون من هي جميعكم، في كل مرة الابتسامة تعلو الوجنتين من الخدمة و الرضا، هنا كانت هذه الشركة إحدى قصص معاناة حياتي في سوء التوصيل و التأخير و الاتكال، مفزعٌ بؤس خدمتهم حتى أن الموظفين تشعر أن الكثير منهم يتجنّب التحدث إليك بل لي ألف ريال منذ شهر و نصف أطالبهم بإرجاعها و إلى تاريخ هذه التدوينة ما زلت ألاحقهم، هذه الخدمة البئيسة نتاج تراكمات من عدم الجودة في تسلسلهم الإداري و عدم الجودة في حيثيات حياة هؤلاء القائمين عليها و في بيئة عملهم، و خمنّوا ماذا؟ نعم حياتي تأثرت سلبياً بسبب تأخير توصيل الطلبات و تكسرها و تفويتهم لمواعيد التوصيل و ملاحقتهم و حياتنا بدون أثاث بالرغم من طلبنا لها اونلاين قبل عودتنا بأسابيع، كان تأثيراً قاسياً لا يعلمه إلا المولى، بدون مبالغة سلاسة الدوائر الحكومية كان المواسي لألمي مقارنة بالمعارض و الشركات الخاصة، أن أعيش أنا و أسرتي في بيئة تهتّم بالجودة في مناحيها ثم انتقل بعد سنين لبيئة أخرى لا تحمل ذات المعايير هنا نقطة انتقالية ليست بالعابرة في نظرتنا و أفكارنا و مشاعرنا لنا نحن كعائدين من بلدان الابتعاث المختلفة ( و خصوصا لأطفالي كان الوضع انتقالي بمعنى الكلمة عندما ينتقلون من السويد لأي بلد آخر بالعالم)
التعميم السرطاني!
ختاماً،، دعوني أحدثكم عن مشهدين حدثا معي لتوضيح نقطتي، في جدة حضرت معرضين متتالين، الأول عن السيارات والثاني معرض الكتاب، حرفياً أنا كنت في المعرضين من أول خمسة أشخاص دخولاً لهما من الزوار، أنا في إجازة و حرصت على الحضور المبكر للمعرضين تجنباً للزحمة، بمعرض السيارات ذهبت مع طفلي في عربيته و قبلها قرأت في تويتر أن المعرض سوف يفتح أبوابه الساعة 4 عصراً، أنا هناك على الرابعة تماماً مع طفلي و حارس الأمن يخبرني بعد أن أوقفت سيارتي مسافة 500 متر تحت هذه الشمس أن الافتتاح سوف يكون الساعة الخامسة و علي الانتظار تحت الشمس خارجاً مع طفلي، هنا بصراحة نال الشيطان مني ما نال من الغضب خصوصاً أنهم قبلها بنصف ساعة على حسابهم بتويتر ذكروا أن الافتتاح الساعة 4 عصراً، في اليوم الذي تليه ذهبت لمعرض الكتاب و الشمس هنالك كانت على الموعد الساعة 10 صباحاً، التنظيم كان مرتبك عند الدخول، وقفت في طابور الدخول مع العاملين و أنا أدفع طفلي في عربيتي لكي نمر على التفتيش، كان الطابور في غاية عدم التنظيم و التدافع، حينها جاء أحد المنظمين و قال جملة بالفعل في مكانها و نصحنا بالوقوف في صف واحد، هنا أنا لم أسكن و كنت الوحيد الذي تحدث و قلت له بعبارات استنكار عن سوء التنظيم من البداية و لماذا هذا الدمج مع العاملين و و ، أصارحكم أنني ندمت وكان المنظم هو ضحية لتعميمي السرطاني، أنا جئت إليه و كمية من السخط حدثت بالأمس وتراكمات من الوجع نالتني في الأيام الأخيرة، لذلك أي مشهدٍ من عدم الرضا ينالني حينها سأرميه بتعميمي السلبي عليه، هل نحن هكذا كلنا في أغلبنا أم أنه فقط للعائدون من الابتعاث؟ لا أملك إجابة واضحة لكنه أمرٌ وجدته في نفسي بتكرار بعد عودتي من الابتعاث.