
(لوحة العشاء في عمواس)
في بدايات القرن العشرين وفي سنين الحرب العالمية الثانية كان هنالك رسام هولندي مغمور يُدعى هان فان ميغرين، هذا الرجل حاول أن يشق طريقه الفني بلوحاته الخاصة لكن طريقه مسدود، ولإن الحرب تقوم على الأكاذيب والأحقاد لذلك نال الفن التشكيلي خلال الحرب سباتاً في حينها وعبر الذاكرة الإنسانية بعد ذلك، كما يقول سلفادور دالي “الرسم هو الصدق في الفن، لا توجد إمكانية للغش، إنه إما جيد أو سيء”، فما الذي فعله صديقنا الهولندي المغمور؟ قام ميغرين بتزوير عدة لوحات لدرجة تصنيفه بأكثر المزورين ابداعاً في القرن الماضي، اغتنى الرجل وجمع الملايين وباع لوحاته هنا وهناك لدرجة الوصول للقيادات السياسية في هولندا ولدى النازيين، إحدى أشهر لوحاته المزورة هذه اللوحة بالأعلى للفنان الإيطالي المشهور كارافاجيو والمسماة بلوحة (العشاء في عمواس) من القرن السادس عشر، تقول الروايات أنه باع هذه اللوحة وبعض اللوحات الهولندية لأحد النازيين وتم الحكم عليه بالإعدام بسبب الخيانة وتم التخفيف الحكم عنه عندما اعترف بأن لوحاته مزورة.

(هان فان ميغرين خلال محاكمته)

(الفنان الإيطالي كارافاجيو، بالمناسبة كان مختالاً عنجهياً وتوجد مراجع تذكر أنه كان مصاب بالفصام)
ما دخل هذا كله بموضوع التدوينة؟ صبراً فالثمرة قادمة.
قبل يومين قرأت ثريد على تويتر لاقى انتشاراً جيداً لسيدة سعودية تتحدث كيف قام الشات جي بي تي بمساعدتها في سؤالها عن ضياع شغفها وطاقتها، وصفت إجابة الذكاء الاصطناعي بالمريحة واتفق في ذلك نسبياً، الذكاء بدأ ببعض الجمل من المواجدة العاطفية مع معاناتها ثم سرد نصائح بالسماح بحدوث هذه المشاعر ونصائح بلعب أدوار مختلفة وتجربة الجديد وتقبل الازعاج حولها والامتنان وخلافه، الثريد لاق رواجاً منطقياً لكن في احساسي أن تجربة الرجوع للذكاء الاصطناعي في مناطق مخصصة للتلاقي الإنساني (مثل منطقة العلاج النفسي وليس حصراً عليه) هي تجربة تشبه بشكل كبير هذه اللوحات الفنية البديعة لكنها ليست بتاتاً كاللوحات الأصلية وربما لن تكون على الأقل إلى الوقت الحاضر، هنا في السطور التالية سأشرح بعض الأسباب في ظني التي تجعل تجربة العلاج النفسي الاصطناعي هو نسبياً كلوحات صديقنا ميغرين، هي لوحات جميلة لكنها غير حقيقية:
١- التجاوز والهشاشة في (الحيثيات) من العلاقة العلاجية:
نعلم أن العلاج النفسي يقوم على أمور عديدة ومن أهمها العلاقة العلاجية بيني وبين المريض، وهنا سأتطرق للأمر بمنظور مختلف، أنا ليست مشكلتي في الذكاء الاصطناعي فقط أن هنالك هشاشة من اللزوم أن تحدث في أساسيات مهمة لبناء هذه العلاقة، لكن هنالك حيثيات ضرورية مهمة لكي تبني علاقة بالفعل علاجية، أنت تحتاج إلى هذا التوجس الأولي بين الطرفين، لهذا الخوف من الانكشاف، للمؤشرات التي تعطيك الأمان لكي تنكشف أكثر، لهذا التقدم والتراجع الذي يصنع خبرة علاجية مفصلية في العلاج، المرور بهذه الحيثيات هي من اللوازم التي يصبح حينها الأمر علاجياً حقيقياً، من يدخل على محادثة الشات جي بي تي حينها هذه الحيثيات ليست جوهرية بتاتاً ويتم تجاوزها باعتقادات عن جمودها أو عدمها وأفضل الأحول بعدم الانتباه لها، لكم التخيل معي عن شخص منذ نعومة أظافره وهو يحادث الذكاء الاصطناعي، ماذا سيفعل حينها مع أول علاقة إنسانية حقيقية؟ سيكون الأمر كأنه مسخاً منفصلاً عن واقعه في أولى لحظات تعامله الإنساني الحقيقي، هل ترون كيف هذه الهشاشة ملزمة لا محالة.
٢- التعطيل الضروري .. وضمان النجاح .. وسحر الخطأ:
هل تعرفون أخوف ما أخاف منه ويجعلني اتحسس سلاحي مع أي معالج اتعامل معه؟ ربما تكون الثقة التام من نجاح المخرجات، التعامل مع مشاكل مريضه كأمور تماماً قابلة للحلول، المعالج الذي يمتلك دوماً إجابة وأن كل سؤال يحضر أمامه يملك له مخرجات ناجحة موثوقة، هذا المعالج انفر منه فرارك من الأسد وأبعد، وهذا – بشكل أو بآخر – ما يقدمه الوضع الحالي حين تبادل الحديث مع الذكاء الاصطناعي، سيصل معك هذا الذكاء لمنطقة لابد أن تكون ناجحة وجيدة، وهذا يقودني لسؤال محوري وفلسفي: ما هو النجاح في العلاج النفسي برمته؟ كيف للعلاج الإلكتروني أن يصل معاك لنجاحك الخاص بك؟ النجاح العميق في العلاج النفسي – وأنا أعنيها تماماً – ربما لن يكون نجاحاً تاماً حسب المعادلات واللوغاريتمات الإلكترونية، بل ربما يكون فشلاً ذريعاً على معايير هذه الآلة.
والأمر الأكثر عمقاً أن المريض نفسه حينها عضلة التفكير عنده والتحليل سوف تتعطل، الإجابات الجيدة خلال العلاج النفسي في الأغلب الأعظم مصدرها هو ذات المريض، لكن في الشات جي بي تي يبدو لي أن الناحية بالضرورة معطلة، الإجابات يتلقاها المريض لا يقدمها هو بنفسه، وهذا الأمر خلل من الصعب جداً تداركه في هذه المحادثات الإلكترونية.
النقطة الثالثة في هذا السياق هو كيف للعلاج الإلكتروني أن يمنع عنك منطقة غاية من الأهمية في العلاج النفسي العميق ألا وهو احتمالية وقوع هذا المعالج في الخطأ، أنت في هذا العلاج الإلكتروني تتعامل مع شيء لا يقبل الخطأ، والحرمان هنا يحدث عندما لا يتعرض المريض لهذا الأمر المحتوم من خطأ أو احتمالية سوء الفهم من معالجه الحقيقي الواقعي، هذا الخطأ من المعالج (والذي ربما يكون على شاكلة انقال مقابل من ذات المعالج والذي ليس بالضرورة خطأً حقيقياً) هو أمر علاجي جوهري في العلاج النفسي الفعال، نفهم مرضانا أكثر من تفاعلاتنا والتي ربما تكون خاطئة، بل الخطأ حدوثه يصنع تفاعل انساني علاجي مهم للمريض أيما كانت الردود الأفعال حينها من الطرفين خلال عملية الخطأ هذه.
٣- الفضول اتجاه الطرف الآخر:
بمجرد دخول المريض إلى العيادة سيكون هنالك نوع من الفضول الغير موعي به سيحدث لدى المريض عن معالجه، هذا الفضول يضيف حياة للعملية العلاجية، يغذيها بالكثير من البعد البشري وكذلك يغذيها علاجياً بشكل غير محدود، هذا الفضول له تطبيقاته الجوهرية في العملية العلاجية، عدم الفضول هو يكاد يكون الموت لكل العملية العلاجية، هذا الفضول مقصوص الجناحين ومن الجهتين في العلاج الإلكتروني، التعامل مع شيء آلي سيصنع بيئة جافة من فكرة الفضول في هذه الآلة، في الطرف الآخر على الشاشة لا يوجد تجربة نملك فضول اتجاهها ونتفاعل على أثر هذا الفضول.
وفي هذا السياق تذكرت تجربة نالت الكثير من النقد قبل فترة ليست بالبعيدة، حيث قامت شركة معروفة بالدعم النفسي الإلكتروني عن طريق معالجين حقيقين بدمج الشات جي بي تي في دعمهم النفسي لمجموعة ضخمة من عملائهم بدون علم العملاء عن هذا الدمج، العملاء نالهم رضا أكبر عن الخدمة المدمجة، لكن بمجرد اخبار العملاء أن الخدمة مدمجة مع عامل تقني بالذكاء الاصطناعي حينها الرضا ناله الهبوط، ما الذي حدث يا ترى؟ يبدو لي أن الذي حدث هو اختفاء البعد الإنساني الخيالي الفضولي من وجود شخص آخر على الطرف الآخر عندما علموا أن الطرف الآخر ليس سوى شيء الكتروني بحت، ولكم القياس هنا والتفكير، وأحد القياسات من هذه التجربة هي النقطة التالية.
٤- خواء المواجدة:
أحد النقاط التي تم ذكرها في التجربة السابقة من العملاء هو افتراضهم المسبق من أن مواجدة الآلة الإلكترونية معهم هي مواجدة خاوية، وبالفعل أقولها رغم محاولات تحسين كذلك في الذكاء الاصطناعي والمحاولات لا بأس بها، المواجدة في العلاج النفسي أحد مكوناتها الغير موعية والمفصلية هو إحساس المريض أن هنالك شخص في الطرف الآخر له تجربته ومعاناته الإنسانية الخاصة به لكنه بالرغم من كل ذلك اختار هذا المعالج بشكل تلقائي حقيقي يصل للقلب أن يكون في حالة مواجدة مع هذا المريض، هذه المعادلة المستحيلة الحل على الذكاء الاصطناعي هي معادلة تحمل عمق علاجي عظيم لا بد منه، ناهيك عن نغمة الخوف على مريضه وتفاعل العيون الحقيقي من الفرحة معه، هذه اللمسة من جعل المناديل أقرب لمريضه، هذه اللمعة في العين مع الحزن له، هذا كله من العصي على الآلة أن تقدمه.
٥- هو ذكاء اصطناعي واحد ونحن كمعالجين من الصحي ألا نكون كذلك:
هل أنا كمعالج هو ذاتي أنا مع كل شخص يدخل عيادتي؟ حتماً لست كذلك، مع هذا السؤال هل لمحتم مقصدي هنا، لا يمكن للذكاء الاصطناعي – حسب علمي والتقدم الحالي – أن يتشكل انسانياً ومنطقاً وحديثاً وحتى عاطفةً بشكل أبلغ مع كل شخص يحادثه وعلى ما يظنه أنه يناسبه، الذكاء الاصطناعي قائم ومبني على أن يكون حديثه مفتوح تماماً لأي شخص يتحدث معه، مبنى على موديل من التعامل اللغوي الكبير المفتوح في التحدث، اللوغاريتم هنا محددة الأطراف، السيناريو خط سفره مقنن لأوسع درجة متاحة في المرونة لكنها لن تتجاوز لمناطق من المعتاد الطبيعي أن يتجاوزها الإنسان الطبيعي وقد يكون بفوائد علاجية.
الذكاء الاصطناعي لا يقرأ ما بين السطور ولا يقرأ – وهنا جوهري – تفاصيل الجسد ولغته الحاضرة في داخل العيادة، لا يميز كثيراً متى يكون المريض ساخراً أو خائفاً أو نرجسيته تتضخم وخلافه، حتى حس الفكاهة ومتى ما كان مناسباً – بفوائده العلاجية – لن يكون متوفراً بما يناسب توقيته ولغته مع كل مريض والاختلافات بينهم، حتى تلك التعبيرات الدقيقة من الصمت ولحظات التوقف ودقائق التعمق في المشاعر المغيبة عن الشخص لسنين في حياته وحتى الاستخدامات اللغوية وطبقات الصوت عند الحديث وخلافه.
وفي هذا السياق هنالك أمر حيوي من العصي على الآلة أن تقدمه، ألا هو التقدم الذي يحدث بين الطرفين والديناميكية التي تكبر بينهم، ينمو المريض في العلاج عاطفياً ونحن من الضرورة أن نواكب هذا النمو في تفاعلاتنا، إن كانت بدايات العلاج ممتلئة بالتراحم والحزن حينها من النمو أن يحدث كذلك بعضاً من الغضب والدفع بالمسؤولية وصولاً للفقد الضروري.
٦- التضاد في العمق:
عوداً للثريد الذي حرك هذا الموضوع فيني، ذكر الشات جي بي تي في نصائحه أن على السيدة أن ترتاح جسدياً نفسياً وكذلك أن تبتعد عن الأدوار المفروضة عليها، والآن أنا اتخيل أن أقول هذا الكلام لمريضة عندي وفي جلسة واحدة، فضلاً عن أنني لن أنصح بهذا الشكل المباشر وكذلك بنصيحتين مباشرتين خلف بعضهما، لكن في سياق واقعي وكذلك بأبعاد ثقافية واقعية قد تكون هذه النصيحتين فيهما تباعد وتضاد يصل للقسوة على مريضتي، كيف لأحد يعاني من أمور أشياء مفروض عليها أن يرتاح منها ويغيرها هكذا، هذه الأمور يعرفها مريضي قبل أن يحضر لعيادتي وفي الأغلب هو حضر لإنه لا يريد أن يسمع هذه الإجابات.
ختاماً، لا مناص أن الذكاء الاصطناعي سيغزونا ومساحة التقدم فيه ما زالت ضخمة، لا مانع من الاستئناس به في الدعم النفسي وخلافه، لكن إلى الآن الأمور تكاد تكون خيالية وغير منطقية، ولإننا بدأنا بالفن والرسم فإنني سأنتهي به، في البال أمور كثيرة لكنني سأدع مقالتي هنا واكتفي بهذا القدر، في مقولة تنسب لليوناردو دا فينشي يقول فيها:
“الفن لا يُنتهى منه أبدًا، وإنما يُهجر”
أترك هذه المقالة لإن بعض الهجر فيه اكتمال، سواء ذلك في الحياة أو العلاج النفسي بذاته مع مرضانا، بعض عدم الاكتمال فيه اكتمال بديع وفن .. ولو أبى الذكاء الاصطناعي!